إنجيل المسيحيين

إنجيل المسيحيين

الفصل الأول

إنجيل المسيحيين

سلامة الإنجيل من الناحية التاريخية

كلمة الإنجيل معرَّبة عن الكلمة اليونانية إفانجيليون ومعناها البشارة أو الخبر السار . والسبب في إطلاق هذا الاسم عليه، أنه يعلن للملأ محبة الله المطلقة للخطاة وموت المسيح كفارةً عنهم، حتى لا يهلك كل من يؤمن به منهم إيماناً حقيقياً، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16).

وقبل الرد على الدعوى بحدوث تحريف في إنجيل المسيحيين، نقول: إنه يمكن لأي إنسان أن يتّهم آخر بما يشاء، لكن إذا لم يستطع إثبات اتهاماته بأدلّة مقنعة تكون باطلة. فكان من الواجب على القائلين بحدوث تحريف في هذا الإنجيل أن يذكروا

(1) الآيات التي أصابها التحريف، وماذا كانت قبل تحريفها.

 (2) أسماء الذين قاموا بالتحريف، وفي أي وقت قاموا به، وما هي غايتهم من تصرفهم هذا

 (3) كيف استطاع هؤلاء الأشخاص أن يقوموا بالتحريف مع أنه كان يوجد منذ القرن الثاني الميلادي آلاف النسخ من الإنجيل في بلاد متفرقة وبلغات متعددة، الأمر الذي يتعذّر معه إجراء تحريف فيها جميعاً.

 (4) وأخيراً أن يذكروا الطريقة التي لجأ إليها الأشخاص المذكورون لإخفاء التحريف المزعوم، حتى لم يستطع اكتشافه إلا المعترضون، وذلك بعد مئات السنين من حدوثه!

وبما أن المعترضين اكتفوا بالاتهام دون ذكر الأدلة التي تثبته، يكون اتهامهم باطلاً. ومع هذا فقد بحث الكاتب هذا الاتهام من نواحٍ متعددة، فاتّضحت له سلامة الإنجيل من أي تحريف، كما يتضح من هذا الكتاب.

 1 - لم يعترض معاصرو المسيح ولا خلفاؤهم في القرون الأولى على شيء مما ورد في الإنجيل:

 أ - كان الإنجيل قد أخذ في الانتشار شفوياً بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام فحسب، وذلك بين سكان أورشليم الذين عاصروا المسيح وعرفوا كل شيء عنه (أعمال 2 - 7) دون أن ينهض واحدٌ منهم، مهما كان شأنه، لمناقضة شيء مما جاء فيه. وبعد ذلك انتشر الإنجيل في مدةٍ لا تتجاوز ثلاث سنوات في كثير من بلاد الشرق والغرب بلغات سكانها. وكان معظم هؤلاء بسبب انتشار الثقافة اليونانية وقتئذ بينهم، لا يقبلون الأخبار إلا بعد فحصها وتمحيصها من كل الوجوه (إقرأ مثلاً أعمال 17: 10-12 و19: 8-24). وبالرجوع إلى التاريخ لا نرى واحداً من هؤلاء أيضاً قد اتهم المبشرين بالإنجيل بتحريفٍ أو تزوير.

 ب - لم يتّهم اليهود والوثنيون، على الرغم من تهكّمهم منذ القرن الأول على عبادة المسيحيين وعقائدهم (لروحانية العبادة المسيحية وسمّو عقيدتها فوق الإدراك البشري) أبداً بأنهم حذفوا شيئاً من إنجيلهم، أو أضافوا إليه شيئاً آخر.

 ج - اشتهر الفلاسفة الوثنيون الذين اعتنقوا المسيحية في القرون الأولى بالبحث والمناقشة، ولم يكن لهم رأي واحد من جهة عقائد المسيحية، فانقسموا إلى فرقٍ متعددة لاختلافهم في شرح بعض آيات الإنجيل. وكان كل فريقٍ منهم يناصب الفريق الآخر العداء، ويحاول إسناد شتّى التّهم إليه. ومع ذلك لم يُسند فريق منهم إلى غيره جريمة إجراء تزويرٍ في الإنجيل الذي يُعتمَد عليه في البحث والمناقشة، فاتفاقهم على نصٍّ واحد يؤكد مصداقيته.

 2 - نُشر الإنجيل كتابةً دون تنقيح بين معاصري المسيح، وتُرجم إلى لغات متعددة ابتداءً من القرن الثاني:

أ - بعد نشر الإنجيل شفوياً في كثير من بلاد الشرق والغرب، أُرسل ابتداءً من منتصف القرن الأول مكتوباً في كتب، بواسطة أشخاص عرفوا كل شيء عن المسيح، إمّا في هيئة سيرة تفصيلية له كما فعل متى ومرقس ولوقا ويوحنا، أو في هيئة شرحٍ لمبادئه وتعاليمه كما فعل بولس وبطرس ويعقوب وغيرهم، دون أن يقابل بعضهم ما كتبه على ما كتبه البعض الآخر، الأمر الذي يدل على نزاهتهم وعدم وجود أي تواطؤ بينهم، وقيام كل منهم بكتابة الإنجيل مستقلاً عن صاحبه.

ب - كان هؤلاء الأشخاص مختلفين عن بعضهم اختلافاً كبيراً لا يسمح لهم بالاتفاق على أمرٍ ما، إلا إذا كان هذا الأمر حقيقةً ملموسة لديهم جميعاً. فمتَّى كان محاسباً حريصاً، ومرقس شاباً متحمّساً، ولوقا طبيباً مدقّقاً، ويوحنا شيخاً رزيناً هادئاً، وبولس فيلسوفاً متعمقاً، وبطرس جريئاً جسوراً، ويعقوب خبيراً محنّكاً. وبينما كان لوقا الطبيب يونانياً يتمتع بدرجة عظيمة من الثقافة وحرية الفكر، كان معظم الآخرين من اليهود، واليهود أصوليون متزمّتون بطبيعتهم، لا يميلون إلى الدراسة أو التأليف. كما أنه لم يكن يخطر ببال واحدٍ من هؤلاء جميعاً أن ما كتبه عن المسيح، سيكون كتاب المسيحية الذي يتناقله الناس في كل العصور والبلاد، حتى كان يجوز الظن بأن واحداً منهم لجأ في كتابته إلى شيء من الموضوعات المستحدثة، أو أضاف إلى سيرة المسيح شيئاً أو حذف منها شيئاً آخر، لتكون حسب نظره ملائمةً لطبائع البشر جميعاً. بل كان غرضهم الوحيد أن يدوّنوا سيرة المسيح وتعاليمه كما عرفوها، وذلك لفائدة الذين لم يسمعوا عنها من معاصريهم.

 وبعد ذلك كُتب الإنجيل في آلاف النسخ، كما تُرجم إلى لغاتٍ متعددة ابتداءً من القرن الثاني، لفائدة الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود والوثنيين، الذين كانوا يتكلمون بهذه اللغات في البلاد المختلفة، ليُتلى في اجتماعات عبادتهم. فكان كثيرون يحفظون ما جاء فيه عن ظهر قلب، كما شهد يوستينوس وترتليان في القرن الثاني. وكتابة الإنجيل في آلاف النسخ، وترجمته إلى لغات متعددة، وانتشاره في بلاد مختلفة، وحفظ كثيرين ما جاء به عن ظهر قلب، يجعل إجراء أي تحريف في كل نسخة أمراً مستحيلاً.

 3 - كُتب الإنجيل على ورق البردي أو جلد الغزال:

لم يكُتب الإنجيل على أحجار أو عظام، كما كانت تُكتب الحوادث والسِّيَر القديمة (حتى كان يجوز الظن أن بعض هذه المواد قد تآكل أو ضاع) بل كتبوه في كتب من ورق البردي وجلد الغزال بكل دقة وعناية. ثم نسخه الذين أتوا بعدهم على ورق البردي وجلد الغزال أيضاً، كما كان يفعل اليونان والرومان قديماً بكتبهم الهامة، الأمر الذي لا يدع مجالاً للظن بضياع جزء من الإنجيل وكتابة غيره بدله.

4 - عدم حرق النسخ الأصلية للإنجيل:

لم يتعمّد أحدٌ إحراق أو إتلاف النسخ الأصلية للإنجيل، كما حدث مع بعض الكتب القديمة التي أراد فريق من الناس إخفاءها، أو إخفاء شيء مما جاء فيها لغرضٍ في نفوسهم (حتى كان يُظن أن الإنجيل الذي في أيدينا الآن ليس هو الإنجيل الحقيقي) بل ظلّت هذه النسخ موجودةً كما هي، ونُقلت عنها ابتداءً من القرن الثاني نسخٌ كثيرة لا تزال باقية إلى الآن، كما سيتضح في الفصل الثاني.

5 - حافظ قدامى المسيحيين حتى على الأناجيل المزيفة ونشروها:

لم يحرق المسيحيون القدامى حتى الكتب التي ألّفها أصحاب البدع عن المسيح، في الفترة الواقعة بين أواخر القرن الثاني وأواخر القرن الرابع (لترويج بدعهم) وأطلقوا على كلٍ منها زوراً وبهتاناً اسم الإنجيل بل أبقاها هؤلاء المسيحيون كما هي، لثقتهم الكاملة في صدق الإنجيل الذي بين أيديهم. وليس هذا فحسب، بل وأيضاً طبعوها ونشروها بلغاتٍ كثيرة، مراعاةً لمبدأ حرية الرأي، وليُفسحوا المجال أمام الناس في كل العصور للمقارنة بين ما جاء في هذه الكتب، وبين ما جاء في الإنجيل الذي بين أيديهم، الأمر الذي يدل على أمانة المسيحيين القدامى ونزاهتهم وعدم جواز اتهامهم بإجراء أي تحريف في الإنجيل.

الفصل الثاني

سلامة الإنجيل من الناحية الأثرية

1 - وجود نسخ من التوراة والإنجيل يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الثاني وما بعده:

هناك نسخة كاملة من الإنجيل الذي كتبه يوحنا وجدت سنة 1923 على بعد 28 كيلومتراً جنوب أسيوط (في مصر) يرجع تاريخها إلى سنة 125م. وهي محفوظة الآن بمكتبة ريلاندز بمنشستر (انجلترا). وهناك أيضاً بقايا نسخة من الأناجيل التي كتبها كل من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، مع رسائل بولس الرسول، وجزء من سفر الرؤيا يرجع تاريخها إلى سنة 180م، وجميعها محفوظة أيضاً هناك. وعدا ذلك توجد مجموعة شتوبي التي تحتوي على أجزاء من العهدين القديم والجديد، يرجع تاريخها إلى سنة 200م. كما يوجد مخطوط مدينة دورا (الواقعة على نهر الفرات) يحتوي على أجزاءٍ من العهد الجديد، ويرجع تاريخه إلى سنة 275م، ومجموعة أرسنيوس (بالفيوم - مصر) تحتوي على كثير من أقوال المسيح، ويرجع تاريخها إلى أوائل القرن الرابع.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك ست نسخ كاملة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى المدة الواقعة بين القرنين الثالث والخامس، نُشرت صورٌ لبعض صفحاتها في الكتب والمراجع الهامة، كما يتضح مما يلي:

أ - النسخة الإخميمية:

وقد اكتشفها في إخميم بصعيد مصر سنة 1945م العلاّمة شستر بيتي، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث، وهذه النسخة محفوظة الآن في لندن.

ب - نسخة سانت كاترين:

ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد اكتشفتها بعثة أمريكية بمساعدة بعض الأساتذة المصريين من جامعة فاروق سابقاً الإسكندرية حالياً . وقد أشارت إلى هذه النسخة الجرائد المصرية لا سيما جريدة الزمان في 15 يوليو تموز 1950 وجريدة الأهرام الصادرة في 6 يوليو تموز 1966 عند حديثها عن احتفال جامعة الإسكندرية بمرور 1400 سنة على إنشاء دير سانت كاترين، وعند الاحتفال بإحياء مكتبة الإسكندرية القديمة عام 1991.

ج - النسخة السينائية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد عثر تشندروف العالم الألماني على 45 ورقة منها في سنة 1842م في دير سانت كاترين، وعثر على الباقي فيالمدة من سنة 1852-1859م، ثم أهداها إلى الإسكندر إمبراطور روسيا. وقد صُّوِرت صفحاتها سنة 1911 وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب. ولما قامت الثورة الشيوعية عرضت هذه النسخة للبيع، فاشتراها المتحف البريطاني سنة 1935 بما يوازي بضعة ملايين من الدولارات.

د - النسخة الفاتيكانية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد سُمِّيت بهذا الاسم لأنها كانت ملكاً لمكتبة الفاتيكان بروما، إذ ورد ذكرها في محتويات هذه المكتبة سنة 1475م. لكن لما اقتحمت جيوش نابليون إيطاليا، نُقلت إلى باريس ليدرسها العلماء بباريس. وفي عام 1889 صُورّت صفحاتها وطُبع منها عدد كبير، أرسل إلى بعض المتاحف والجامعات. ومن الأدلة على قدم هذه النسخة، عدم انفصال كلماتها بعضها عن البعض الآخر. ويقول رجال الآثار إنها كتبت بواسطة رجل مصري.

ه - النسخة الإسكندرانية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وتتكون من أربعة مجلدات ضخمة. وقد عثر عليها في الإسكندرية لوكاربوس بطريرك الأستانة، فأرسلها إلى تشارلز الأول ملك إنجلترا، على يد السير توماس سفير إنجلترا في الأستانة سنة 1624م. وأودعت بعد ذلك في المتحف البريطاني سنة 1853م. ويقول رجال الآثار إن النسخة المذكورة كُتبت بواسطة شخص يدعى تكلا وإنها كانت إحدى النسخ التي جُمعت من الإسكندرية سنة 615م لمقارنة الترجمة السريانية عليها. ومن الأدلة على قدمها أن رسائل بولس الرسول ترد بها غير مقسّمة إلى أصحاحات، على نقيض النسخ التي كُتبت بعد القرن الخامس. وقد صُورت صفحاتها سنة 1869م وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب.

و - النسخة الأفرائيمية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وكانت ملكاً لعائلة مديشى في فلورنسا، ثم نُقلت إلى باريس في القرن السادس عشر، حيث أُودعت بدار الكتب بها.

ز - وعدا النسخ المذكورة توجد النسخة الأمبروسانية (وترجع إلى سنة 450م) والنسخة البيزائية (550م) والنسخة الشرقية (820م) والنسخة البطرسية (916م). كما توجد 674 نسخة غير كاملة يرجع تاريخها إلى الفترة الواقعة بين القرنين الخامس والعاشر، وجميعها محفوظة في المتاحف ودور الكتب الأوربية.

أما الدعوى بأنه نظراً لأن النسخة الأصلية للكتاب المقدس غير موجودة الآن، لذلك لا يجوز الاعتماد على النسخ الأثرية السابق ذكرها، فلا يجوز الأخذ بها لثلاثة أسباب:

(1) يرجع تاريخ بعض هذه النسخ إلى سنة 126م، أي بعد الانتهاء من كتابة أجزاء الكتاب المقدس الأصلية بمدة تتراوح بين 60 و25 سنة فقط. وهذا لا يدع مجالاً لحدوث أي تحريف فيه.

(2) عاصر كثيرون من المسيحيين النسخة الأصلية وهذه النسخ معاً، ولو كان قد حدث أقل تحريف، لثاروا ضده وأعلنوا للملأ حقيقة الأمر.

(3) لا أثر لأصول أهم الكتب القديمة، مثل لوْحَي الحجر اللذين كُتبت عليهما الوصايا العشر، ومع ذلك لا يشك أحدٌ في أن الوصايا العشر الواردة الآن في التوراة هي بعينها التي كانت مدوّنة على اللوحين المذكورين، لأن التواتر العام دليل على صدقها. وهكذا الحال من جهة الكتاب المقدس.

2 - وجود جداول لمحتويات الكتاب المقدس، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث وما بعده:

هناك 13 جدولاً للكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرن الثالث والقرون الأربعة التالية له، يحتوي كل منها على أسماء أسفار هذا الكتاب وملخص كل سفر منه، وأشهرها: جدول مورتوري المحفوظ بميلان، وجدول أوريجانوس المحفوظ بباريس، وجدول يوذينوس، وجدول أثناسيوس، وجدول يوسابيوس، وجدول لاودكية، وجدول سلاميس، وجدول غريغوريوس. وهذه الجداول محفوظة الآن في لندن. وقد قام يوشيان وغيره من العلماء بمضاهاة نسخ الكتاب المقدس القديمة وما جاء في هذه الجداول، على الكتاب المقدس الموجود بين أيدينا الآن، فلم يجدوا اختلافاً ما، الأمر الذي يدل على أنه لم يحدث به تحريف أو تغيير.

3 - وجود كتب دينية بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس، يرجع تاريخها إلى القرن الأول وما بعده:

أ - فمن القرن الأول توجد: (1) رسالة لأكليمندس (أسقف روما سنة 80م) الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (فيلبي 4: 3) تحتوي على 59 فصلاً، كلها مواعظ مؤسسة على فصول من الإنجيل. وقد أشار إليها إيريناوس سنة 170م وديونسيوس أسقف كورنثوس سنة 190م. وهذه الرسالة محفوظة الآن بمتحف لندن. (2) ثلاثة كتب لهرميس الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (رومية 16: 14) وتتحدث عن حياة المسيح والعقائد المسيحية الواردة في العهد الجديد. (3) سبع رسائل لأغناطيوس (أسقف أنطاكية سنة 95م) تحثّ على التقوى والقداسة والإيمان الحقيقي بالمسيح، وهي محفوظة الآن بمتحف باريس.

ب - ومن القرن الثاني توجد: (1) رسالة لبوليكاربوس (أسقف أزمير، الذي كان تلميذاً ليوحنا الرسول) وهذه الرسالة تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده. (2) تفسير الإنجيل تأليف بابياس أسقف هيرابوليس في ستة مجلدات. (3) كتاب ليوستينوس الفيلسوف يدافع فيه عن المسيحية، ويجادل بشأنها كثيرين من بينهم شخص يهودي يدعى تريفو. ولهذا الفيلسوف أيضاً رسائل موجّهة إلى الأمبراطور تيطس أنطونيوس والإمبراطور ماركوس أنطونيوس. وأيضاً إلى أعضاء مجلس السناتو في روما، يوضح فيها أسباب اعتناقه للمسيحية. (4) كتاب لهيجسبوس يصف فيه رحلته إلى الكنائس الشرقية والغربية. سجل فيه أنه وجد الكنائس المذكورة تسير وفقاً للتعاليم الواردة في إنجيل يسوع المسيح. (5) كتاب لإيريناوس أسقف ليون ذكر فيه ما سمعه عن رسل المسيح الإثني عشر، من الأشخاص الذين عاصروهم. (6) كتاب لأثيناغورس أحد فلاسفة المسيحيين القدامى سجل فيه أن الكنائس تواظب على دراسة إنجيل المسيح المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا. (7) كتاب للفيلسوف أرستيدس يتضمن خلاصة التعاليم المسيحية، وقد أهداه مؤلفه إلى الإمبراطور أدريانوس. (8) كتاب اتفاق البشائر الأربع بقلم تيتيانوس. (9) تفسير الإنجيل بقلم باتنينوس وآخر بقلم أكلمندس. (10) مؤلفات ترتوليان الفيلسوف عن العقائد المسيحية.

ج - ومن القرن الثالث توجد (1) كتب أوريجانوس في التفسير والبحوث الدينية، وعددها كما يقول المؤرخون أكثر من 500 كتاب. (2) تاريخ الكنيسة وتعاليمها الأساسية ليوسابيوس المؤرخ المشهور. (3) كتب غريغوريوس أسقف قيصرية، وديونسيوس أسقف الإسكندرية، وكبريانوس أسقف قرطجنة وكلها تحتوي على دراسة للعقائد المسيحية، وتفسير لبعض الآيات الكتابية، وكثير من الحوادث التاريخية التي جرت في القرنين الأول والثاني.

وقد أحصى العلامة ميل والسير دافيد وغيرهما من العلماء، الآيات التي اقتبسها أصحاب الكتب المذكورة، فوجدوا أنها تبلغ حوالي ثلاثة أرباع الآيات الواردة في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا، وتحوي كل آيات العهد الجديد ما عدا إحدى عشرة آية. كما وجدوا أنه ليس هناك اقتباس في هذه الكتب إلا وهو موجود في هذا الكتاب. وقال غيرهم من العلماء إنه لو ضاعت نسخ الكتاب المقدس الحالي من الوجود، لأمكن جمع معظمه من الكتب الدينية السابق ذكرها، الأمر الذي يدل على أن نسخة الكتاب المقدس الحالية هي هي كما كانت منذ القرون الأولى، دون تغيير أو تبديل.

4 - شهادة بعض العلماء عن صدق الكتاب المقدس:

أ - شهادتهم عن صدق العهد الجديد (الإنجيل):

(1) قال جان جاك روسو: أتقولون إن ما يرويه الإنجيل اختراع متقن! كلا. إن الاختراع لا يكون على هذا النحو، فإن درجة التحقق من أعمال سقراط التي لا يشك أحد في صدقها، أقل من درجة التحقق من أعمال المسيح الواردة في الإنجيل .

(2) وقال هرناك أكبر علماء النقد: ظن ستروس في أوائل القرن التاسع عشر أن الإنجيل ليست له قيمة تاريخية، لكن اجتهاد جيلين من علماء النقد والتاريخ أعاد إليه قيمته من هذه الناحية، إذ ثبت أنه يرجع إلى الحقبة اليهودية الأصلية من الدين المسيحي .

(3) وقال جولشر أحد علماء النقد أيضاً: الأناجيل مستندات قوية لتاريخ يسوع المسيح .

(4) وقال سير فريزر أستاذ علم الدين المقارن: وجود الإنجيل الحالي منذ القرن الأول مؤيَّد بشهادة تاريخية لا مجال للشك فيها .

(5) وقال دكتور برايت: بفضل اكتشافات قمران، أصبحنا نوقن أن العهد الجديد هو هو، كما كُتب بواسطة تلاميذ المسيح. وأن كل الأحداث الواردة فيه، يرجع تاريخها إلى الفترة ما بين 25 و80 ميلادية .

(6) وقال السير وليم رمزي في كتاب شهادة الاكتشافات الحديثة لصدق العهد الجديد: كنت أعتقد أن سفر أعمال الرسل كُتب بعد الحوادث التي دُوِّنت فيه بحقبة طويلة من الزمن. ولكن بدراستي للوثائق الرومانية اتضح لي أني كنت مخطئاً في اعتقادي .

(7) وقال الأب لاجرانج مدير المعهد الكتابي: لا يوجد الآن أي عالم حقيقي يشك في صدق العهد الجديد، ولذلك أصبح الدفاع عنه مضيعة للوقت .

ب - شهادتهم عن صدق العهد القديم (التوراة):

(1) قال دانا العالم الجيولوجي والمسيو كوفيبيه ومستر سميث العالم الإنجليزي: أثبتت مواضع الاتفاق بين قصة الخَلْق الواردة في التوراة وبين تاريخ الأرض المأخوذ من الاكتشافات الطبيعية، صدق انتساب الكتاب المقدس إلى أصلٍ إلهي .

(2) وقال الأستاذ ولي: تأيد صدق حادثة الطوفان الواردة في سفر التكوين، لأنه بالبحث في طبيعة أرض العراق، وُجدت طبقات من الغِرْين عمقها 8 أقدام. وتحت هذه الطبقات وُجدت آثار أقدم المدنيات المعروفة لغاية الآن .

(3) وقال أحد علماء اللغة الأشورية: ثبت صدق حروب الملوك ضد سدوم وعمورة التي ذكرها سفر التكوين (14: 17 - 23) من الكتابات الأشورية التي اكتُشفت حديثاً .

(4) وقال العلامة نيابور: الحوادث التاريخية الواردة في العهد القديم صادقةٌ كل الصدق، فهي تنبئنا بكل دقة عن هزائم اليهود، كما تنبئنا عن انتصاراتهم في العهد المذكور .

ج - شهاداتهم عن صدق الكتاب المقدس بصفة عامة:

(1) قال إسحق نيوتن: أثبت البحث النزيه صدق الكتاب المقدس، وأن كل ما جاء به يحمل في طياته البراهين الكافية على صدقه .

(2) وقال رينان بعد زيارته لفلسطين: تجلّى أمامي الآن تاريخ الكتاب المقدس الذي كنت أشك في صدقه بصورةٍ أثارت إعجابي ودهشتي .

(3) وقال غيره: على الرغم من أن كتَبَة الكتاب المقدس لم يقصدوا بهتاريخاً بحتاً، غير أنه أصدق مرجع تاريخي للعصور التي يشير إليها. وتدل القرائن على أنه لم يعد هناك مجال لنقده أو الاعتراض عليه .

(4) وقال أحد أعضاء جمعية الاكتشافات الفلسطينية بقيادة السير جيمز نيل: يا له من أمرٍ عجيب! كنا نظن في أول الأمر أننا سنجد أخطاء كثيرة في الكتاب المقدس، ولكن لم نكن نمكث ثلاثة أسابيع في مكان من الحفريات، إلا وكنا نتحقق أن هذا الكتاب كتب بكل دقة وعناية .

(5) وقال سبرجن: نحن لا ندافع عن الكتاب المقدس، لكنه هو يدافع عن نفسه .

(6) وقال وستكوت: ليس هناك دليل على وجود أي اتفاق مقصود بين كتَبَة أسفار الكتاب المقدس، وهذا دليل على نزاهتهم .

(7) وقال أودلف سفير اليهودي المتنصِّر: للكتاب المقدس هدف واحد، فليس هناك أي تعارض بين العهدين القديم والجديد، فالعلاقة بينهما مثل العلاقة بين المسألة وحلّها، أو أساس البيت وجدرانه، مما يدل على أن كتَبَته جميعاً كانوا منقادين بروح الله نفسه .

(8) وقال هنري مارتن: يشبه الكتاب المقدس قصراً بناه كثيرون، ولكن الذي وضع تصميمه شخص واحد . أي أنه كله موحى به من الله.

(9) وقال الأستاذ فيليب مورو: من يتتبّع تاريخ الفكر البشري يتضح له عدم استقراره على حالة واحدة، فآراء الناس تختلف باختلاف عقولهم وباختلاف البلاد والعصور التي يعيشون فيها. أما الكتاب المقدس، فعلى الرغم من اختلاف الذين كتبوه (من جهة ثقافتهم والبلاد والعصور التي عاشوا فيها) فليس هناك أي اختلاف أو تعارض في ما كتبوه، ممّا يدل على أنهم لم يكونوا إلا آلاتٍ في يد الله نفسه .

الفصل الثالث

سلامة الإنجيل من الناحية العقلية

1 - استحالة حدوث التحريف، ووجود إنجيل واحد للمسيحيين:

لا يمكن أن يكون المؤمنون الحقيقيون قد قاموا بإجراء أي تحريف في الإنجيل، لأن هذا العمل وزر لا يمكن أن يكون قد خطر ببال واحدٍ منهم. ولا يمكن أيضاً أن يكون بعض المؤمنين بالاسم قد قاموا بالتحريف المزعوم في نسخ الإنجيل التي كانت بين أيديهم، لأنهم لو كانوا قد قاموا به، لثار المؤمنون الحقيقيون ضدهم وقضوا عليه. ولو فرضنا جدلاً أن المؤمنين الحقيقيين لم يقضوا على التحريف المزعوم، لكان يوجد الآن إنجيلان مختلفان، الأول هو الخالي من التحريف، والثاني هو المُصاب به. ولكن لا يوجد سوى إنجيل واحد، هو المستعمل لدى جميع المسيحيين في كل العصور والبلاد. فالقول بحدوث تحريف في الإنجيل لا يتفق مع العقل على الإطلاق.

2 - بقاء الآيات التي تتعارض في ظاهرها مع عظمة المسيح، ووحدانية الله:

هدف التحريف أو التزوير (كما نعلم) هو الحصول على فائدة ما. فلو فرضنا جدلاً أن بعض المسيحيين سوَّلت لهم نفوسهم أن يحرفوا شيئاً من الإنجيل لَحَذفوا ما يأتي:

(أ) الآيات التي تتعارض في ظاهرها مع عظمة المسيح مثل الآيات الخاصة بولادته في مذود للغنم (لوقا 2: 7) وهروبه إلى أرض مصر، واحتقار بعض الناس له واتهامهم إياه بأنه مختل وبه شيطان (متى 13: 55 ومرقس 3: 21 و22 ويوحنا 7: 20). وكذلك الآيات الخاصة باعتراض أحد تلاميذه عليه وإنكار علاقته به، وخيانة يهوذا وتسليمه المسيح لليهود ليصلبوه طمعاً في دريهمات معدودات، وهروب باقي التلاميذ وتركهم إياه وحيداً (الواردة في متى 26: 15 و56 و74)، وغير ذلك من الآيات التي كان الوثنيون يعيِّرون المسيحيين بها.

ومن ناحية أخرى لكانوا قد أسندوا إلى المسيح عمل المعجزات منذ طفولته، وقبول السجود من الحيوانات والأشجار، والتصفيق من الجبال والتلال. ولوصفوه أيضاً بملاحة الوجه وطول القامة واعتدال القوام وقوة العضلات وغزارة الشعر. ولأطنبوا كذلك في ذكر صفاته وحسَبه ونسَبه وغيرها من الأمور التي كان يتفاخر الناس بها قديماً.

(ب) الآيات الخاصة بأن الله الواحد الأحد هو الآب والابن والروح القدس، والخاصة بأن المسيح هو ابن الله. أو لفسَّروها تفسيراً يضع حداً لاعتراضات الوثنيين واليهود. ولم يكن هذا بالأمر العسير عليهم، كما يتضح مما يلي:

(1) لا يُراد بالآب والابن والروح القدس المعاني المادية بل الروحية، كما لا يُراد بهم أقانيم منفصل أحدهم عن الآخر، بل يراد بهم ذات واحدة هي ذات الله، وذلك من جهة كونه ذا علاقات بينه وبين ذاته أزلاً، وبينه وبيننا في الزمان. وقد بحث العلماء عقيدتنا هذه، فقال ابن رشد في كتاب تهافت التهافت ص 32 : إن النصارى لا يرون أن الأقانيم زائدة عن الذات، وإنما هي عندهم كثيرة بالقوة لا بالفعل. ولذلك يقولون إن الله ثلاثة وواحد. أي واحد بالفعل وثلاثة بالقوة . وقال غيره في كتاب العقائد النسفية ص 162 : لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنوية، دون النصارى . وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتاب الله - ص 171 : الأقانيم (عند المسيحيين) جوهر واحد، و·الكلمة و·الآب وجود واحد. وحين تقول الآب لا تدل على ذات منفصلة عن الابن لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية . والأقنوم كلمة سريانية يُراد بها من يتميّز عن غيره دون أن يكون له ظل. وفي الوقت نفسه يتحد مع آخر في الذاتية والجوهر بكل خصائصهما ومميزاتهما. ولذلك لا تُطلق هذه الكلمة إلا على كل من الآب والابن والروح القدس لأنهم ذات الله الواحد.

ولإزالة كل لبس من جهة اعتقادنا، نحن المسيحيين، في ذات الله، نقول: إن الله يتصف بصفات إيجابية مثل المحبة والعلم والإرادة والبصر والسمع والكلام. وهذه الصفات لا يمكن أنها كانت عاطلة أزلاً، ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات، بل لا بد أنها كانت عاملة أزلاً قبل خلق هذه الكائنات. وإلا كان الله قد تغيّر وتطوّر، فأخذ يحب بعد أن كان لا يحب، ويريد بعد أن كان لا يريد، وهلم جراً. وهو لا يتغير ولا يتطور. وعمل صفات الله أزلاً يتطلب إما وجود أزليين معه، أو وجود تركيب في ذاته. وبما أنه ليس هناك أزلي سواه، وفي الوقت نفسه ليس فيه تركيب، إذن لا بد أنه كان يمارس صفاته بينه وبين ذاته نفسها.

وإذا كان الأمر كذلك، لا تكون وحدانيته وحدانية مطلقة، بل وحدانية شاملة أو جامعة. وقد عرف هذه الحقيقة معظم علماء الكلام. فمثلاً قال البيجوري: والحاصل أن الوحدانية الشاملة هي وحدانية الصفات ووحدانية الأفعال . وقال غيره: وحيث أن صفاته تعالى حقيقية، لم يكن بسيطاً من كل وجه . وقال صاحب التحقيق: أرى الكثرة في الواحد وإن اختلفت حقائقها وكثرت، فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين . وقال الشيخ محيي الدين بن عربي: أمرنا بالاستفادة بالاسم الجامع الذي هو أحد أسماء الله الحسنى المعروفة. وقال أيضاً: الله عين ما ظهر وعين ما بطن. فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة وكثرة مردُّها إلى واحد . وقال غيره: من غلبت عليه الوحدة من كل وجه كان على خطر (مشكلة الألوهية، وفصوص الحكم، وحاشية الأمير على الجوهرة، وتحفة المريد على جوهرة التوحيد). وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في كتب الله الثلاثة، فليرجع إليها القارئ إذا أراد.

(2) أما من جهة الاصطلاح ابن الله ، فلا يُراد به المعنى الحرفي كما ذكرنا، لأن الله لم يلد ولم يولد، إذ أنه روح محض (يوحنا 4: 24)، بل يراد به المعنى الروحي. والمعنى الروحي للابن بالنسبة إلى الله، هو المعلِن لذاته تعالى .

ولذلك يُدعى ابن الله كلمة الله لأن كلمة الكائن هي التي تعلن ذاته. وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة فقال عن نفسه: اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ا لْآبَ (يوحنا 14: 9). فإذا كان من اللازم لكمال الله أن يكون قائماً بكلمته أزلاً (لأنه لولا ذلك، لكان قد تعرَّض للتغيُّر، إذ يكون بدون كلمة أصلاً، ثم اتَّخذ له كلمة) أدركنا أن المسيح من الناحية الجوهرية هو الذي يعلن الله لذاته منذ الأزل الذي لا بدء له. ومن الناحية الجسدية التي اتخذها من العذراء، هو الذي أعلن الله لنا، عندما كان له المجد على الأرض بيننا.

وقد أدرك هذه الحقيقة بعض العلماء، فقال الشيخ أبو الفضل القرشي: يمكن أن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأنه لا إله إلا الله (حاشيته على تفسير البيضاوي ج 3 ص 142). وقال الأستاذ عباس محمود العقاد: جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإِلهية (الله - ص 159). والصورة الجميلة للذات الإِلهية هي الصورة الكاملة لها. وصورةٌ مثل هذه لا يمكن أن يعلنها إلا الله أو أقنوم من أقانيمه، لأن البشر والملائكة جميعاً كائنات محدودة، وفي الوقت نفسه معرّضة للخطأ، فلا يمكن أن يأتي ملاك أو إنسان بهذه الصورة على الإطلاق. ولذلك لا يكون ابن الله هو المعلِن لله فقط، بل يكون أيضاً هو الله معلَناً لأنه لا يعلن ذات الله إلا الله . وكان هذا الحق معروفاً عند اليهود المعاصرين للمسيح (يوحنا 5: 18) بسبب وجود إشارة عنه في توراتهم (مزمور 2: 7 - 9 وأمثال 30: 4).

كما أن هذا التفسير الذي ذكرناه عن معنى ابن الله ليس أمراً غريباً عنا نحن الناطقين بالضاد، فنحن نقول بنات الفكر بمعنى الفكر معلَناً وجلياً.

3 - بقاء الآيات التي تتعارض مع غرائز البشر وميولهم:

ولو فرضنا أيضاً أن بعض المسيحيين حرّفوا شيئاً من الإنجيل، لحذفوا منه الآيات التي تنهى عن الطلاق ومحبة المال، والتي تأمر بمحبة الأعداء والإحسان إليهم والصلاة لأجلهم (مثل متى 5: 31 و43 - 48 و6: 19 - 34) وغير ذلك من الآيات التي تنفِّر معظم البشر من المسيحية. ومن ناحية أخرى، لأضافوا إلى الإنجيل العبارات التي تفتح المجال أمام البشر للقيام بالأعمال التي تميل إليها غرائزهم (مثل الأخذ بالثأر، والزواج بأكثر من واحدة، وجمع المال وتكديسه)، وفي الوقت نفسه تسهّل أمامهم طرق الحصول على غفران الخطايا التي يرتكبونها (وذلك بالصيام لبضعة أيام أو إعطاء شيء من المال للفقراء، أو القيام ببعض الصلوات) والتي تصّور لهم أيضاً متع الحياة الأخرى بصورة تأخذ بمجامع قلوبهم، مثل الأطعمة الشهية والملذات الجسدية وما شاكلها حتى يعتنقوا المسيحية.

لكن بالرجوع إلى الإنجيل يتضح لنا ما يأتي:

أ - إنه ينهى عن مقابلة الشر بالشر (متى 5: 38-42) وذلك حسماً له ومنعاً من انتشاره. وينهى عن الزواج بأكثر من واحدة (متى 19: 4-6) لكبح جماح الشهوات وضمان سلامة الأسرة. وينهى عن تكديس المال (متى 16: 19-21) لإفادة كثيرين منه. ومن الناحية الأخرى يوصي بالسلوك بالقداسة والأمانة حتى نكون كاملين كما أن الله كامل (متى 5: 48).

ب - ويعلن أن الخطية بالفكر أو القول تحرم صاحبها من التوافق مع الله لأنه كامل، ولا يتوافق مع الكامل إلا الكامل. ولذلك فإن عقاب الخطية في أصغر مظاهرها هو الحرمان الأبدي من الله، أو بالحري هو الطرح في جهنم إلى أبد الآبدين (متى 5: 22). كما يعلن أن الأعمال الصالحة لا تستطيع التكفير عن الخطية. لأن هذه الأعمال مهما كثرت هي محدودة في قدرها، وحق الله الذي أُسيء إليه بسببها لا حدّ له. والأشياء المحدودة في قدرها لا تستطيع إيفاء مطالب أمرٍ لا حدّ له. ومن ناحية أخرى بما أنه لو غفر الله خطايانا دون مراعاة لحقوق عدالته، لكانت رحمته قد طغت على عدالته، ومحبته على قداسته. وهذا ما لا يجوز حدوثه في ذات الله، الذي لكماله المطلق لا تطغى فيه صفة على صفة أخرى. فمن البديهي أن يقوم الله بإيفاء مطالب عدالته وقداسته بينه وبين نفسه، أو بالحري أن يتقبل فيها عار خطايانا وقصاصها على نحوٍ ما، قبل أن يغفرها لنا. وهذا هو عين ما فعله في موت المسيح الكفاري على الصليب، فعلى الصليب التقى العدل بالرحمة (مزمور 85: 10).

ج - ويعلن الإنجيل لنا أن الحياة الأخرى لا مجال فيها للأكل أو الشرب أو الزواج (متى 22: 30 ورومية 14: 17) لأن المؤمنين الحقيقيين سيكونون هناك كملائكة الله، لذَّتهم الوحيدة هي التمتع بجلاله وتقديم العبادة اللائقة به بكل محبة وسرور.

مما تقدم يتضح لنا أن الإنجيل خالٍ خلواً تاماً من الوصايا التي تحبِّب معظم الناس في المسيحية. وهو في الوقت نفسه مليء بالوصايا التي تنفِّرهم منها، رضوا بذلك أم لم يرضوا. فلا يُعقل إطلاقاً أن يكون بعض المسيحيين قد سّوَلت لهم نفوسهم أن يحذفوا من الإنجيل شيئاً، أو يضيفوا إليه شيئاً آخر.

الفصل الرابع

سلامة الإنجيل من الناحية الموضوعية

الذي يقوم بالتحريف عادةً يكون متأثّراً بعقائد وعادات البشر التي يعرفها. ولكن تعاليم الإنجيل خالية من أي أثرٍ لهذه وتلك، وهذا يؤكد لنا أنه لا يمكن أن تكون يد التحريف قد امتدّت إليه. وللإيضاح نتحدث فيما يلي عن العقائد والعادات التي كانت منتشرة بين اليهود، وبين الوثنيين من الرومان واليونان، الذين عاش بينهم المسيحيون الأوائل، ثم نقارنها بعد ذلك بما ورد في الإنجيل من تعاليم.

1 - عقائد وعادات اليهود والوثنيين في القرون الأولى:

أ - عقائد اليهود وعاداتهم: فاليهود مع إيمانهم بكمال الله وقدرته، كانوا يعتقدون أنه هو الذي يرسل الخير والشر معاً إلى الناس، وأنه لا يتصل بالأتقياء منهم مباشرة بل بواسطة ملائكة تحمل عطاياه إليهم، وترفع عبادتهم إليه. وأن العبادة يجب أن تكون في أورشليم وحدها، ولا يقبلها الله إلا إذا اقترنت بالذبائح والطقوس. وأن الاغتسال بالماء ضروري جداً قبل القيام بها، وأن حق الاقتراب إلى الله مقصور على أهل الختان، لأن غير المختون كان يُعتبر نجساً أمام الله. وأن تقاليد الآباء هي في مرتبة الناموس الذي أعطاه الله لموسى النبي، ولذلك يجب احترامها احترام الناموس، حتى إذا كانت متعارضة مع الناموس في بعض الأمور.

كما كانوا يعتقدون أنهم بسبب انتسابهم الجسدي إلى إبرهيم الخليل، فهُم وحدهم شعب الله المختار. وإذا صافحوا إنساناً من جنس آخر أو تعاملوا معه في بيعٍ أو شراء كانوا يغسلون أيديهم وينفضون الغبار الذي علق بثيابهم منه قبل الدخول إلى منازلهم. وأن يوم السبت يوم مقدس يحرمون فيه حتى عمل الخير، كما يحرّمون مجرد قطف السنابل من الحقول لأكلها، ويحرّمون تطلّع امرأة إلى مرآة خشية أن تجد شعرةً بيضاء في رأسها فتنزعها في السبت. كما كانوا يعتقدون أن النساء طبقة حقيرة، ولذلك كان الرجال اليهود يشكرون الله في صلواتهم لأنه لم يخلقهم نساءً. وأن رجال الدين مهما كانت أخلاقهم يستحقون كل إكرام واحترام، ولذلك كانوا يطلقون عليهم الربيين أي السادة .

وبالإضافة إلى ذلك كانوا يحبون الصلاة في الأزقّة والشوارع، وتقديم الصدقات على مرأى من الناس، لينالوا مدح الناس. كما كانوا يعتبرون حتى الأكل بأيدٍ غير مغسولة نجاسة يتجنّبونها تماماً. وتحت هذا الستار الديني، أو بالحري الرياء الديني، كانوا يستبيحون كل الشرور والآثام. كما كانوا يبيحون تعدّد الزوجات، وكذلك الطلاق لأتفه الأسباب. فقد كان عدم إتقان الزوجة لطهي الطعام ولو مرة واحدة، أو تحدُّثها مع رجل في أي موضوع من الموضوعات، سبباً كافياً لطلاقها لأنها لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً (تث 24: 1) في عين زوجها ذلك اليوم فقط!

ب - عقائد الوثنيين وعاداتهم: وكان السواد الأعظم منهم يعبدون الكواكب والأوثان والأباطرة والعظماء. أما الفلاسفة الذين سمت مداركهم واهتدوا إلى وجوب وجود خالق عظيم للكون، فقد قال بعضهم إنه الأثير، وقال البعض الآخر إنه موجود لا يتصف بصفة إيجابية ولا تربطه بالعالم رابطة حقيقية. وكانوا يعتقدون أن المادة أزلية وأنها هي السبب في وجود الشر في العالم، وأن الكواكب لها نفوس تحرّكها في أفلاكها. وأن أرواح البشر خُلقت قبل ولادة أجسادهم من أمهاتهم، وأنها تحيا في هذه الأجساد ليس وفقاً لمشيئتها بل وفقاً لأحكام القَدَر. وأنها تتناسخ بعد موت أجسادها في حيوانات تأديباً لها على ما تكون قد ارتكبته من آثام. فكان كثيرون ينكرون البعث والقيامة من الأموات.

وكان اليونان والرومان يعتقدون أنهم وحدهم الحكماء، وأن باقي الناس برابرة أو جهلاء. كما كانوا لا يشفقون على طفلٍ صغير أو شاب في مقتبل العمر أو شيخ كلّل الشيب رأسه، بل كانوا يقتلون الطفل والشيخ إذا كان هزيلاً. ويقتلون الشاب إذا كان وجهه قبيحاً. وبالإضافة إلى ذلك كانوا يطلقون العنان للغريزة الجنسية لينالوا رضى الآلهات لديهم، كما كانوا يزعمون!!

2 - خلو الإنجيل من العادات والعقائد اليهودية والوثنية:

فإذا نظرنا إلى العقائد والعادات السابقة، لا نرى أثراً لها في الإنجيل، كما يتضح مما يلي:

أ - فهو يعلن أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده هو الأزلي، وأنه خالق كل ما عداه، وأن الكواكب تتحرك في أفلاكها حسب النظام الذي وضعه لها، وأن أرواح البشر لم يكن لها وجود قبل أجسادهم، بل أنها تولد معها. وأنها تحيا في العالم ليس بقوة الجبر أو القَدَر، بل بمطلق حريتها وإرادتها. كما أنها لا تنتقل بعد موت أجسادها إلى الحيوانات، بل إلى الهاوية أو إلى الفردوس حسبما يكون إيمانها وعملها.

ب - ويعلن أن الله يتّصف بكل صفات الكمال الإيجابية، وأنه يتّصل بالمؤمنين الحقيقيين اتصالاً مباشراً، وأنه مصدر الخير لهم ولغيرهم من البشر. أما الشر الذي يصيب بعضهم، فهو نتيجة سوء تصرفهم. وأن العبادة تكون للّه وحده، وأنها يمكن أن تكون في أي مكان، لأن الله لا يتحيَّز بحيِّز، ولأنه لا يفضِّل مكاناً على مكان. وأن الطقوس والنظم الدينية مهما كانت جميلة وجذابة في نظر الناس، فهي ليست بذات قيمة أمامه، لأن العبادة التي يرتضيها هي ما كانت بالروح والحق. وأنه لا حاجة لتقديم الذبائح الحيوانية كفارة عن الخطية بعد أن قدَّم المسيح نفسه كفارةً، فوفى كل مطالب عدالة الله وقداسته من جهة المؤمنين الحقيقيين. وأن العبادة إذا كانت فردية، يجب أن تكون في الخفاء، وهكذا يجب أن تكون الصَّدَقَة، حتى تكون كلتاهما للّه دون سواه. والاغتسال الذي يجب أن نقوم به قبل الصلاة، ليس تنظيف بعض أجزاء الجسم بالماء، بل إزالة الأفكار الشريرة من النفس، حتى تتهيأ للاتصال بالله والتمتع به.

ج - ويعلن أن الناس جميعاً سواسية أمام الله، فلا فرق بين أبيض وأسود أمامه. وأن مجرد الانتساب الجسدي إلى نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل لا يعود على أحد من ذريته أو تابعيه بخيرٍ ما، لأن المهم هو الانتساب الروحي للّه والسير في سبيله بالإيمان. وأن رجال الدين مهما كانت مكانتهم في العالم، هم خدَّامٌ للمؤمنين وليسوا رؤساء عليهم. كما أنهم إذا كانوا أشراراً يجب نبذهم والتحوُّل عنهم، لأن مكانتهم لا تتوقف على مراكزهم بل على سلوكهم. وأن الدستور الذي يجب أن يسير عليه رجال الدين وغيرهم من الناس هو كلمة الله دون سواها، لأن تقاليد القدماء، وإن كانت تتضمن بعض الفوائد، غير أنها لا تخلو من الخطأ، لأن واضعيها ليسوا معصومين في التعليم أو السلوك. وأن الختان الذي يطلبه الله ليس هو الختان الجسدي بل الختان الروحي، أو بالحري نزع الخطية من القلب تماماً.

د - ويعلن أن الخطية ليست هي فعل الشر فحسب، بل هي مجرد التفكير فيه (أمثال 24: 9) والتفوُّه به (متى 5: 22). كما أنها هي التقصير في عمل الخير (يعقوب 4: 17) والانصراف الذهني عن الله (مزمور 9: 17).

وتقديس يوم في الأسبوع لا يعني الكفّ فيه عن الأعمال الخيرية، بل بالعكس يُراد به التفرُّغ للقيام بهذه الأعمال، بالإضافة إلى عبادة الله وتمجيده. ولا حرج على المؤمنين في يوم الرب من الأكل والشرب وغيرهما من الأعمال الضرورية، التي لا يمكن تأجيلها إلى يوم آخر. وأن المرأة ليست أقل من الرجل ولا الرجل أعظم من المرأة، بل إنهما واحد أمام الله. وأن الطلاق وتعدُّد الزوجات غير جائزين، لأن الله خلق من البدء امرأةً واحدة لرجلٍ واحد، وجعلها لحماً من لحمه وعظماً من عظامه، ولذلك فلا طلاق بينهما إلا لعلة الزنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يحدث أي تغيير في الإنجيل، بل إنه باق كما هو، وحي الله الذي يسمو فوق آراء البشر وتصّوُراتهم في كل العصور والبلاد.

الفصل الخامس

سلامة الإنجيل من الناحية الدينية

1 - وجود رموز ونبوَّات في العهد القديم تشير إلى الكثير مما جاء في الإنجيل:

أوحى الله بالعهد القديم إلى موسى النبي وغيره من أنبياء إسرائيل، ويتمسك به اليهود الذين لا يؤمنون بالمسيحية لغاية الآن. والعهد القديم مليء بالرموز والنبوات عن المسيح، وولادته العذراوية، واسم الأسرة التي يولد منها، والبلدة التي يولد فيها. وتدل تلك النبوات أيضاً على أعماله وصفاته، وموته كفارةً عن البشر وقيامته بعد ذلك من بين الأموات، وغير ذلك من الأمور الخاصة به. وبمضاهاة هذه النبوات وتطبيق تلك الرموز على ما ورد في الإنجيل عن المسيح، نرى أن كلاً منها ينطبق عليه كل الانطباق.

فمن جهة شخصيته قارن مثلاً إشعياء 9: 6 مع لوقا 1: 32 و33. ومن جهة ولادته العذراوية قارن إشعياء 7: 14 مع لوقا 1: 31. ومن جهة الأسرة التي يولد منها قارن ميخا 5: 2 مع متى 1: 2 و3 و2: 5 و6. ومن جهة أعماله وتصرفاته قارن إشعياء 42: 1-9 مع متى 12: 14-21. ومن جهة موته كفارةً قارن إشعياء 53 مع يوحنا 10: 11. ومن جهة قيامته من بين الأموات قارن مزمور 16: 10 مع متى 28: 6 - الأمر الذي يدل على عدم حدوث أي تحريف في الإنجيل.

وقد قام عالم رياضيات أمريكي اسمه بيتر ستونر بحساب نسبة تحقيق 48 نبوة بطريق الصدفة، فوجد أن لها فرصة واحدة، من بين عدد هو واحد أمامه 181 صفراً من الفرص. فمن المستحيل أن يكون تحقيق تلك النبوات بطريق الصدفة!

2 - تحريض الوحي على التمسُّك الشديد بكل آياته، وإنذاره لمن يزيد عليها أو يحذف منها:

أمر الله من جهة آياته: اُرْبُطْهَا عَلَى قَلْبِكَ دَائِماً. قَلِّدْ بِهَا عُنُقَكَ. إِذَا ذَهَبْتَ تَهْدِيكَ. إِذَا نِمْتَ تَحْرُسُكَ، وَإِذَا ا سْتَيْقَظْتَ فَهِيَ تُحَدِّثُكَ (أمثال 6: 21 و22) وأمر أيضاً: لْتَكُنْ,,, عَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلَادِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ وَحِينَ تَمْشِي فِي ا لطَّرِيقِ وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ، وَا رْبُطْهَا عَلَامَةً عَلَى يَدِكَ، وَلْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ، 9éوَا كْتُبْهَا عَلَى قَوَائِمِ أَبْوَابِ بَيْتِكَ وَعَلَى أَبْوَابِكَ (تثنية 6: 6-9). وأيضاً: لا تمِلْ عنها يميناً أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفّظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه (يشوع 1: 7 و8).

كما أمرهم: ولا تزيدوا على الكلام... ولا تُنقصوا منه، لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها (تثنية 4: 2). و·كُلُّ ا لْكَلَامِ ا لَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ا حْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لَا تَزِدْ عَلَيْهِ وَلَا تُنَقِّصْ مِنْهُ (تثنية 12: 32). وحذَّرهم: إن كان أحد يزيد على هذا (أي كتاب النبوَّة) يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة، يحذف الله نصيبه من سفر الحياة (رؤيا 22: 18 و19). فلا يمكن لمسيحي أن يحذف كلمة من الكتاب المقدس أو يضيف أخرى إليه.

3 - ترحيب المسيحيين بالاضطهاد في سبيل التمسُّك بما جاء في الإنجيل:

أ - لو أن المسيحيين الأوائل حرَّفوا آيةً من الآيات الخاصة بشخصية المسيح أو موته الكفاري نيابة عن البشر (اللذَيْن هما أهم موضوعات الكتاب المقدس) لَمَا كانوا يعرِّضون أنفسهم للاضطهادات القاسية التي كانت تحلّ بهم منذ القرون الأولى، من اليهود والوثنيين على السواء، بسبب هذين الموضوعين. لأنه ليس هناك عاقل يعرّض نفسه للاضطهاد بسبب أمرٍ لا نصيب له من الصواب، زوَّره واختلقه هو بنفسه!

وقد أشار الأستاذ عباس محمود العقاد إلى هذه الحقيقة فقال: ومن بدع (أهل) القرن العشرين سهولة الاتهام كلما نظروا في تاريخ الأقدمين فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها وصِفاتٍ لا يشاهدونها ولا يعقلونها. ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان أو أعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمُّد الكذب والاختلاق. فشتّان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقاً لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب، ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب. مثل هذا لا يُقْدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن يوجد بين الكذَبَة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون. فإذا كان المؤلف الصادق مَن يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين أن الرسل لم يكذبوا في ما رووه، وفي ما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوه ممن رآه (عبقرية المسيح ص 118 و189).

4 - بُطلان الدعوى بوجود اختلاف بين كتبة الإنجيل:

أ إن ما يقال عنه اختلاف بين كَتَبَة الإنجيل الذي يتّخذه البعض دليلاً على حدوث تحريف فيه (كما يدَّعون) هو اختلاف لفظي فحسب، وأسبابه (1) إن كلاً من كتبة الإنجيل كتب على انفراد (2) وإنه كتب إلى جماعة تختلف عن الجماعات التي كتب إليها الآخرون، من جهة الثقافة والعادات. (3) كما أن كلاً منهم كتب إلى جماعته عن ناحية من شخصية المسيح، رأى بإرشاد الله ضرورة توجيه أنظارهم إليها بصفة خاصة. فهذا الاختلاف ليس اختلاف التعارض، بل تنوُّع التوافق والانسجام.

ب فإذا أضفنا إلى ذلك (1) أن وجود أربعة كتب لأشخاصٍ مختلفين (من جهة السن والثقاقة والطباع والجنسية، كما ذكرنا في الفصل الأول) عن سيرة المسيح، أفضل جداً لدى الباحثين عن الحقيقة مما لو كان هناك كتاب واحد عن سيرته. (2) أن اتفاق الشهود في حادثةٍ ما، من جهة كل لفظٍ فيها، مدعاةٌ للطعن في شهادتهم بدعوى التواطؤ، بينما اختلافهم في اللفظ دون المعنى (مع مراعاة الظروف الثلاثة الخاصة بكَتَبة الإنجيل) دليل على صدق شهاداتهم.

ج كان كتبة الإنجيل على درجةٍ سامية من القداسة والأمانة وإنكار الذات، حتى استطاعوا التأثير على كثيرين من اليهود والوثنيين، فصرفوهم عن أهوائهم وشهواتهم المتعددة، وقادوهم إلى حياة الطاعة للّه والتوافق معه في صفاته الأدبية السامية. وهذا يبرهن لنا أنه لا مجال للقول بحدوث اختلاف في الإنجيل، الأمر الذي يبطل القول بعدم جواز الاعتماد عليه.

ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد: إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح، فليس في هذا الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع عن الإنكار، لأن الأناجيل تضمَّنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها. كما أن مواضع الاتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحيٍ واحد (عبقرية المسيح ص 88-90 و·الله ص 149 و154 و194).

5 - بطلان الدعوى بحدوث تحريف في التوراة:

أ - كانت التوراة موجودة في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين. فكانت هناك نسخ منها في الهيكل والمجامع والمدارس الدينية. وكان الكهنة واللاويون يقدسون هذه النسخ كل التقديس ويحافظون عليها بكل دقة وعناية (تثنية 31: 9 و2ملوك 22: 8). كما كانت هناك أيضاً نسخ منها في أيدي القضاة والملوك وأتقياء اليهود والكتبة والفريسيين والناموسيين (تثنية 17: 18). وكان هؤلاء جميعاً يواظبون على قراءتها كل يوم، كما كانوا يعرفون عدد آياتها وكلماتها وحروفها، بل وأيضاً عدد المرات التي تستعمل فيها كل كلمة وكل حرف أيضاً.

ب - فضلاً عن ذلك فإنه لخوفهم الشديد من التعرض لقضاء الله المريع إذا حدث خطأ ما في كتابة التوراة، كانوا لا يعهَدون بنَسْخها إلا لفئة خاصة من رجال الدين الملمِّين بها، وكان هؤلاء يصلّون كثيراً قبل قيامهم بعملهم هذا حتى لا يخطئوا. وإذا وصلوا إلى كتابة اسم الجلالة كانوا يستبدلون القلم الذي يكتبون به بقلمٍ آخر، ثم في خشوع وورع عظيمين يكتبون هذا الاسم الكريم. وعندما يفرغون من كتابة التوراة، كانوا يسلّمونها إلى غيرهم للمراجعة. وكان هؤلاء يراجعونها كلمة كلمة. ولكي لا يكون لديهم شك في دقة المراجعة كانوا يُحْصون عدد كلمات التوراة المكتوبة وعدد حروفها وعدد كل نوع من الحروف أيضاً، ويطابقون كل ذلك على النسخة الأصلية. فإذا وجدوا أخطاء قليلة، كتبوا صوابها. أما إذا وجدوا أخطاء كثيرة، أحرقوا النسخة التي يراجعونها في الحال.

ج - فإذا أضفنا إلى ما تقدَّم أن المسيح وتلاميذه كانوا يقتبسون في أقوالهم الكثير مما ورد في التوراة من نبوات وشرائع، حتى بلغ ما اقتبسوه من هذه وتلك حوالي 200 آية (كما يظهر بكل بيان على صفحات العهد الجديد) اتضح لنا بدليل قاطع أنه لا يمكن أن يكون قد أصاب التوراة تحريف ما.

ونظراً لأن قدامى العلماء كانوا يثقون كل الثقة أن التوراة هي أقوال الله، وأنها لم تتعرض لأي تحريف، كانوا يواظبون على تلاوتها. فمن المأثور عن أبي جلد أنه كان يقرأ القرآن في سبعة أيام والتوراة في ستة، يقرأها نظراً، وكان يومها يقول: تنزل عند ختمها الرحمة (ضحى الإسلام ج1 ص33).

أما ما يظنه بعض المسلمين تحريفاً في آية من آيات التوراة أو الإنجيل، فيرجع في الواقع إلى تفسير علماء المسيحيين لها تفسيراً يختلف عما يراه هؤلاء المسلمون. وقد أشار الإمام الرازي إلى هذه الحقيقة في تفسيره فقال: كيف يمكن التحريف في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب. ولكنهم يحرفونه أي يؤوّلونه على غير تأويله (الرازي في تفسير البقرة 2: 75).

وبما أنه لم يحدث تحريف في التوراة أو الإنجيل حتى قرن 14م (الذي ظهر فيه مفسِّرو القرآن القدامى) فمن البديهي أن لا يكون قد حدث تحريف فيهما بعد ذلك، لأنهما كانا قد انتشرا في بلاد أكثر من التي كانا منتشرين فيها، كما كانا قد تُرجما إلى لغاتٍ أكثر من التي كانا مترجمين إليها. فضلاً عن ذلك فقد أقبل على دراستهما وحفظهما وتفسيرهما أشخاص أكثر جداً من الذين كانوا يفعلون ذلك من قبل، في كل البلاد.

ويسجل لنا ابن كثير في تفسيره للمائدة 5: 43-48 وجود نسخة سليمة من التوراة كانت بين يدي نبي الإسلام، عندما جاء بعض اليهود يسألونه عن عقوبة الزنا، فأخذ الوسادة التي كان يجلس عليها ووضع التوراة فوقها (وكانت باللغة العبرية) ثم أمسك بالتوراة وقال: آمنت بك وبمن أنزلك . وقد جاء الحديث نفسه في سنن أبي داود (مشكاة المصابيح، تحقيق الألباني رقم 4449).


Daily Quotes