إن نظرية التطور لتشارلز
داروين قد فقدت مصداقيتها
بشكل شبه كلّي عند اقتراب
القرن الحادي والعشرين، وهذه
النظرية قد تبنّاها بعض
المؤمنين بالفكر المادّي عند
بدايات القرن العشرين و
حاولوا تلقينها للناس وعملوا
على إثبات صحّتها وفرضها على
كونها حقيقة علمية ثابتة ولكن
هذه المحاولات باءت بالفشل
وثبت إفلاس أصحابها فكريّا،
والعامل الرئيسي لفشل هذه
النظرية هو التطور الكبير
الّذي طرأ على بعض فروع العلم
والتي لها صلة مباشرة بهذه
النظرية مثل علم الأحياء
المجهرية و الكمياء الحيوية و
علم المتحجرات. وثبت بعد هذا
التطور في هذه العلوم أنّ
الحياة لم تنشأ بالصدفة ولم
تتطورخطوة خطوة كما تدّعي هذه
النظرية وثبت استحالة تبنّي
هذه الفكرة أصلا ، وعجزت هذه
النظرية المفلسة في إيراد
الأدلة العلمية المقنعة بشأن
أصل الأنواع الحية, وعجزت
أيضا عن الإجابة على
التساؤلات الواردة بشأن
الخصائص المتميزة لبعض
الكائنات الحية وأصلها.
وهذا العجز بالذات جعل
المؤمنين بهذه النظرية في
مأزق حقيقي.
ويمكن مشاهدة هذه التضحية في
الطبيعة باستمرار، كذلك يمكن
ملاحظة التكافل والتعاون بين
الكائنات الحية بجلاء إضافة
إلى الرأفة في العلاقات
الرابطة بينها. كل هذه
الظواهر الطبيعية شكلت
تساؤلات أمام نظرية "التطور"
ولم تستطع الإجابة عنها،
ياترى ما سبب ذلك؟
كان داروين وهو يدعي نظريته
هذه يعتمد على آلية فكرية
يكمن جوهرها في مفهوم
الإنتخاب الطبيعي وهي آلية لا
تعتمد أساسا على نقد أو تحيل
موضوعي، وحسب تفكير داروين
فإن أصل الأنواع الحية كلها
يرجع إلى جد واحد ووجودهم في
ظروف طبيعية مختلفة أدّى إلى
إختلافهم فيما بعد عن بعضهم
البعض كتكيف مع الظروف
الموجودة، وإن الأنواع التي
أبدت تكيّفا ناجحا وفقا
للظروف الطبيعية التي وجدوا
فيها قد أكتسبت صفات جديدة
أورثتها للسلالات التي جاءت
بعدها، لهذا السبب فإن
الأنواع التي أبدت تكيفا هي
الأقوى بالنسبة للتجاوب مع
قوة الظروف المحيطة بها ونجحت
في البقاء والإستمرار، وإن
فرضية داروين هذه يعبّر عنها
بالبقاء للأقوى أي الأفراد
الأقوياء يصلحون للبقاء أحياء
والضعفاء معرّضون للفناء .
والطبيعة على ضوء هذه الفرضية
يمكن تعريفها استنادا لما جاء
في مقولة جوليان هكسلي الذي
يعتبر أحد الأصدقاء المقرّبين
من داروين و المدافعين بشدّة
عن نظريته كما يلي : "هي حلبة
يتمّ انتقاء الأقوى والأصلح
فيها من الأضعف والفاشل، ولا
مناص من هذا الإنتقاء" .
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل
صحيح أنّ الطبيعة كما يدّعي
أصحاب نظرية التطوّر هي حلبة
يتمّ فيها النصر للأقوى
والأصلح ويسحق فيها الأضعف
ويعرض للفناء بمنتهى الأنانية
والقوة كشكل من أشكال الحياة
؟ .
ويمكن الإجابة عن هذا السؤال
عبر ملاحظة أشكال الحياة في
الطبيعة ، ومن الطبيعي أن
تقوم الكائنات الحية في
الطبيعة ببذل جهد كافٍ للعيش
والدّفاع عن النفس، حيث ان كل
كائن حيّ يجب أن يقوم بالصيد
للحفاظ على حياته أو الدفاع
عن نفسه، ولكن المسرح الطبيعي
للأحياء لا يتألف من هذين
المشهدين فقط بل يمكن ملاحظة
مشاهد في الطبيعة تنطق بأنبل
أنواع التضحية تقوم بها
الحيوانات لصالح أفراخها
وجماعاتها أو حتى تجاه
حيوانات أو أنواع أخرى. و
إضافة إلى التضحية فان
التكافل والتعاون أو الأخذ
بيد حيوان آخر والعمل على
إنقاذه يعتبر من المميزات
السلوكية التي يمكن مشاهدتها
بكثرة في عالم الطبيعة .
وهذه المميزات السلوكية في
عالم الطبيعة عجزت نظرية
التطور عن شرحها بيان أسباب
حدوثها, وثبت أن الطبيعة ليست
مسرحا للحرب كما يدّعى وأنّ
الحياة في الطبيعة قد أثبتت
إفلاس نظرية التطور وعجزها
كليا، ومثال على ذلك : لماذا
يعود الحمار الوحشي (زيبرا)
هاربا من مفترسيه ليلفت
انتباههم إلى ناحيته بدلا من
القطيع الذي قدم منه مستهدفا
إنقاذه و مضحيا بحياته في
سبيل ذلك، هذا التساؤل تعجز
نظرية التطور عن الإجابة عنه،
وكذلك السلوك الغريب لسمكة "
أتارينا " كما سنرى في الفصول
القادمة فهي تعرّض حياتها
للخطر خارجة من الماء إلى
السواحل الرمليّة للتبييض ومع
ذلك فإن قانون الإنتخاب
الطبيعي لم يستطع إزالتها من
مسرح الطبيعة. وفي الصفحات
القادمة ستجدون ما يجعلكم
تشعرون بالحيرة والدهشة إزاء
كائنات حيوانيّة غير عاقلة
وغير منطقية, والإنسان
اللّبيب والمنصف وحده هو الذي
يستطيع أن يرجع أصل هذه
السلوكيات المتميزة إلى الله
الخلاّق العليم والمتصرّف
وحده في خلقه لأن الحق سبحانه
وتعالى يقول في كتابه المبين
: "واختلاف الليل والنهار وما
أنزل الله من السماء من رزق
فأحيا به الأرض بعد موتها
وتصريف الرياح آيات لقوم
يعقلون ". "سورة الجاثية ،
الآية 4"
إحدى المعضلات التي واجهتها
نظرية التطور: المنطقية في
سلوك الحيوانات.
فمن المعروف أن الإنسان هو
الكائن الحي الوحيد الذي
تحكمه العقلانية والمنطقية في
السلوك, فبالإضافة إلى
مميزاته البدنية فإن الميزة
الفريدة التي جعلته على صعيد
مختلف عن باقي الكائنات الحية
هي العقل والمنطق، وعلى ضوء
ذلك فإن الإنسان يتميز
بمحاسبة النفس والتفكير
والتخطيط واستشراف المستقبل
فضلا عن رد الفعل تجاه
الأحداث الحاصلة والتدبّر
وكذلك السير نحو هدف معيّن
كلّ هذه الصفات السلوكية خاصة
بـالإنسان. أما الكائنات
الحية الأخرى الموجودة في
الطبيعة فلا تملك هذه الصفات،
لهذا السبب فلا يمكن لنا أن
ننتظر من الحيوانات أنماطا
سلوكية مشابهة للإنسان
كالتخطيط والتقدير أو القيام
ببعض الحسابات كالتي يقوم بها
بعض المهندسين .
إذن، فكيف لنا أن نجيب عن بعض
الظواهر السلوكية المنطقية في
الطبيعة ؟
حتى إنّ بعض الحيوانات التي
تتصف بهذه السلوكيات المنطقية
لا تملك مخّا أصلا، وقبل
الإجابة عن هذا السؤال لابد
من الإطلاع عن كثب عن بعض هذه
السلوكيات لمعرفة كنه هذه
السلوكيات ومنشئه.
القندس مهندس السّدود
يعتبر هذا الحيوان مهندسا
بارعا وبناّء ماهرا في نفس
الوقت حيث ينشئ عشه بمهارة
فائقة وبنفس المهارة ينشئ
سدّا منيعا أمام عشّه ليحميه
من تأثير الماء الجاري، وهو
يبذل جهدا خارقا وعلى مدى عدة
مراحل لإنجاز هذا العمل
المرهق. وفي المرحلة الأولى
يقوم بتجميع كمّ هائل من
أغصان الأشجار حيث يستخدمها
في التغذية وبناء عشه والسد
الذي أمامه، ولهذا يقوم هذا
الحيوان بقرض الأشجار
المتوفرة بأسنانه لقطعها
وأثبتت الأبحاث العلمية أنه
يقوم بحسابات دقيقة عند عملية
القطع. ويفضل هذا الحيوان
العمل على ضفة المياه التي
تهب عليها الرياح وهكذا تقوم
المياه بمساعدة هذا الحيوان
في سحبه الأغصان التي يقطعها
باتجاهه عشه .
ويتميز عش هذا الحيوان بتخطيط
بارع إذ يحتوي على مدخلين
سفليين تحت سطح الماء ومكان
خاص فوق سطح الماء للتغذية
وفوق هذا المكان يوجد مكان
خاص للنوم إضافة إلى قناة
خاصة لتهوئة هذا المكان .
ويقوم القندس بتجميع الأغصان
واحدا فوق الآخر لتشكيل
الهيكل الخارجي للعش بعناية
كبيرة فلا يترك فيه أية فجوة
أو ثقب ويستخدم في هذا العمل
الأغصان الصغيرة مع كمية من
الطين .
والمواد التي يستخدمها القندس
في بناء عشه تساعد على تماسكه
من جهة والحفاظ على درجة
الحرارة داخله من جهة أخرى,
فبالرغم من انخفاض درجة
الحرارة في الشتاء إلى 35
درجة تحت الصفر فإن الحرارة
داخل العش تبقى فوق الصفر
باستمرار ويقوم القندس أيضا
بإنشاء مخزن للأغذية تحت العش
يتغذى منه طيلة فصل الشتاء.
وفي تلك الأثناء يقوم القندس
بإنشاء قنوات تحتية على شكل
شبكة, و يبلغ عرض هذه القنوات
متران يستطيع هذا الحيوان
بواسطتها أن يصل إلى اليابسة
حيث توجد الأشجار التي يتغذى
عليها.
والسدود التي يبنيها القندس
تتألف من النباتات والأحجار
التي يركمها فوق بعضها البعض
بنفس الطريقة يبني بها العش.
ويبذل هذا الحيوان جهده في رص
الأغصان على شكل مثلث طويل
يربط بين ضفتي المياه إضافة
إلى عمله الدؤوب في رتق
الفجوات الموجودة في السد عبر
ملئها بالمواد اللازمة, وكلّ
هذا يحدث وهو يسبح ضد تيار
الماء ويمتطي كومة عشه في
الوقت نفسه. وعند حدوث أية
فجوة أو خلل في بناء السد
يقوم القندس باستخدام الطين
أو أغصان الأشجار لملئه
ثانية، وهكذا يتحول السد إلى
نوع من الحوض العميق يستطيع
من خلاله القندس أن يجعل من
عشه مخبأ كبيرا للأغذية
والمؤونة تساعده على الحياة
طيلة فصل الشتاء، ويستطيع
القندس أن يوسع من المساحة
المائية داخل العش لنقل أكبر
كمية ممكنة من الغذاء والمواد
اللازمة لبناء العش وترميمه
حتى أن هذا الأسلوب يجعل العش
في مأمن من الأعداء, وفي هذا
يشبه عش القندس قلعة محاطة
بخنادق الدفاع يصعب الهجوم
عليها.
وفي ما تقدم لخصنا سلوك
القندس كمثال على العقلانية
والتخطيط والحساب الدقيق في
كل مرحلة من المراحل ولكن لا
يمكن لي أن أرجع هذه الصفات
إلى القندس وحده بسبب افتقاده
للعقل أو أي شيء يمت بصلة إلى
العقل، إذن فما مصدر سلوك
الحيوان؟ ولابد من وجود إجابة
عن هذا السؤال، وإذا كان هذا
السلوك ليس من اكتساب القندس
فما مصدر هذا السلوك ؟
لا شك أن مصدر سلوك القندس أو
الأمثلة الأخرى التي سنراها
في الصفحات القادمة من سلوك
الحيوانات المختلفة على هذا
الشكل المتميز وفق تخطيط
مدروس هو الله القادر على كلّ
شيء الّذي لا حدّ لقدرته و
علمه فهو الذي يلهم هذه
الكائنات الحية ويأمرها
فتبارك الله أحسن الخالقين.
دودة الإمبراطور التي تعمل
وفق مخطط متعدد المراحل
من المؤكد أن القندس ليس
الحيوان الوحيد في الطبيعة
الذي يبدي سلوكا مخططا
مدروسا, فهناك العديد من
الأمثلة الحية في الطبيعة
والّتي لا يمكن حصرها,
والمثال الآتي يعتبر أصغر
بكثير من القندس ولا ينتظر
منه أي دليل على سلوك عقلي أو
ما يؤكد وجود عقل أو ذكاء في
بنيته، وهذا الحيوان يدعى
بـدودة القز ويرقة هذه الدودة
تقوم بإفراز خيوط الحرير . و
كباقي أنواع اليرقات فإن هذه
اليرقة تقضي فترة من فترات
حياتها داخل شرنقة وعند
خروجها من الشرنقة تقوم
بإخفاء نفسها داخل ورقة
نباتية, و عملية الإختفاء تتم
بمنتهى الإحكام وفق مخطط
مدروس مسبقا وعبر مراحل تتطلب
مهارة فائقة لأن الورقة
النباتية وهي خضراء لا يمكن
طيّها بسهولة و بالتالي لا
يمكن لها أن تخفي جسم الحيوان
الصغير بسهولة لذا فوجب إيجاد
حل لهذه المشكلة.
و هذا الحيوان قد وجد حلا
بمنتهى البساطة ولكنه يفي
بالغرض إلى أبعد حد حيث يقوم
الحيوان بقرض جزء الورقة
المتصل بالنبات لقطعها ولمنع
سقوطها يقوم بربطها بشكل محكم
عبر إفراز خيوط الحرير ثم
تبدأ الورقة بالتيبس و تنكمش
الورقة اليابسة حول نفسها,
وبعد ساعات تأخذ الورقة شكلها
النّهائي كأنبوب يصلح أن يكون
مخبأ أمينا للحيوان و سرعان
ما يلجه متخذا إياه مسكنا له.
للوهلة الأولى يمكن أن يفكّر
المرء بأنّ الحيوان قد خطى
هذه الخطوة المنطقية لتوفير
مخبئ أمين لنفسه وهذا صحيح و
لكن بدخول الحيوان داخل
الورقة المتيبسة قد يصبح صيدا
سهلا للباقين لأنّ اللون
المختلف لهذه الورقة يجلب
انتباه الطيور وهذا يعني
نهاية الحيوان المختبئ
داخلها. وفي هذه الخطوة
بالذات تقدم الدودة على
اختراع جديد بواسطته تنقذ
نفسها من مخالب الطيور إذ
تقوم الدودة بإجراء حسابي
دقيق كالذي يقوم به أخصائيو
الرياضيات أي استنادا إلى
مبدأ الاحتمالات لأن الدودة
تقوم بنفس العمل في أوراق
نباتية أخرى وتقوم بربط هذه
الأوراق حول الورقة التي
تختبئ داخلها كنوع من أنواع
التمويه ضد الأعداء وهكذا
يصبح على غصن واحد أكثر من
ورقة (6-7) واحدة منها فقط
تحوي داخلها الدودة المختبئة
والباقية خالية تماما، وإذا
حدث و تناول أحد الطيور هذه
الأوراق فيصبح احتمال وقوع
الدودة كفريسة 1/6. (3)
كل هذه الظواهر السلوكية
تعتمد على منطق معين بلا شك
ولكن هل يمكن لهذه الدودة
التي تحتوي على مخ مجهري
وجهاز عصبي بسيط أن تقوم بهذه
الأعمال العقلانية والمنطقية
والمخطط لها مسبقا من تلقاء
نفسهاا؟ وكما هو معلوم فلاحظ
لهذه الدودة من التفكير. و من
الاستحالة أن تكون قد تعلمت
من دودة أخرى، وفي الحقيقة
فإن هذه الدودة لا تعلم
بالخطر الذي يتهددها في
المستقبل، إذن فكيف اهتدت إلى
فكرة التمويه ؟
ولو وجهتم هذا السؤال إلى أحد
أصحاب نظرية التطور فلا
يستطيع أن يجيب إجابة مقنعة
ومحددة، و في غالب الأحيان
يلجؤون إلى مفهوم واحد وهو
الغريزة حيث يفسر هؤلاء طريقة
سلوك الحيوانات بالغريزة، وفي
هذه الحالة أول سؤال يتبادر
إلى ذهننا هو تعريف الغريزة،
حيث نستطيع أن نعرفها على
أساس آلية معينة تجعل الدودة
مثلا تخفي نفسها داخل ورقة
نباتية أو تجعل القندس يبني
عشه وسده بهذه الكيفية و هذه
الآلية أو القوة الدافعة
ينبغي أن توجد في مكان ما
داخل جسم الحيوان .
ما الغريزة ؟
كلمة الغريزة تستخدم من قبل
دعاة نظرية التطور لتفسير
قابلية الحيوان القيام بسلوك
معين منذ الولادة. وكانت هناك
تساؤلات عديدة تدور حول كيفية
اكتساب الحيوانات لهذه
الغريزة وعن كيفية ظهور أول
سلوك غريزي لدى الحيوانات
وكذلك عن كيفية انتقال هذه
الغريزة كابرا عن كابر. كل
هذه التساؤلات باقية بدون رد
أو جواب.
هناك أخصائي في علم الجينات
وأحد دعاة نظرية التطور ويدعى
Gordon Taylor rottary
فقد ذكر في كتابه "The great
evolution Myster"أو "سر
التطور العظيم " اعترافا بعجز
النظرية عن الإجابة عن
التساؤلات الخاصة بالغريزة
كما يلي :
لو تسائلنا عن كيفية ظهور أول
سلوك غريزي وعن كيفية توارث
هذا السلوك الغريزي لما وجدنا
أية إجابة (4).
"وهناك آخرون على شاكلة
"Gordon Taylor" يؤمنون
بنظرية التطور لا يودون
الاعتراف بهذه الحقيقة وبدلا
من ذلك يحاولون التمسك بإجابة
غامضة ولا تحمل أية معاني
حقيقية. وبالنسبة لرأي هؤلاء
فإن الغرائز تعتبر جينات
موجودة لدى الحيوانات تظهر
على شكل أنماط سلوكية،
واستنادا إلى هذا التعريف
يقوم نحل العسل ببناء الخلية
على الشكل المنتظم المعروف
بوحدات بنائية هندسية مسدسة
وفق الغريزة الحيوانية و
بمعنى آخر يوجد جين خاص في
أجسام كل أنواع نحل العسل
يجعل هذه الأنواع تبني
خلاياها غريزيا وفق الشكل
المعروف.
وفي هذه الحالة يطرح الإنسان
العاقل المفكر سؤاله المنطقي:
لو كانت الكائنات الحية
مبرمجة على أن تسلك هذا
السلوك المعين فمن الذي برمج
هذا السلوك؟ إذ لا يوجد أي
برنامج مبرمج من تلقاء نفسه
ولابد من مبرمج .
ودعاة نظرية التطور لم يجدوا
إجابة محددة لهذا السؤال
واستخدموا أسلوبا آخر
للمناورة حيث يؤكدون على
اكتساب الكائنات الحية لهذه
الغريزة عن طريق الطبيعة الأم
وكما نعلم فإن الطبيعة الأم
تتألف من الحجر و التراب و
الأشجار والنباتات ..الخ .
ومن من هذه العناصر لها
القدرة على إكساب الكائنات
الحية هذا السلوك المبرمج؟
أيّ جزء من الطبيعة لديه
القدرة والعقل على فعل ذلك
؟كل ما نراه في الطبيعة مخلوق
و لا يمكن له أن يكون خالقا،
ولا يمكن للإنسان العاقل أن
يقول وهو يرى لوحة زيتية
جميلة ما أحلى الأصباغ التي
رسمت هذه اللوحة بلا شك يكون
هذا الكلام غير منطقي. إذن
فإن ادعاء كون المخلوق خالقا
للأشياء هو بلا شك ادعاء غير
منطقي. وهنا تظهر لنا حقيقة
واضحة وهي عدم اكتساب هذه
الكائنات الحية غير العاقلة
لهذه الميزات السلوكية
المنطقية من تلقاء نفسها,
فهذه الميزات مكتسبة بالولادة
إذن فإن هناك من خلقها بهذه
الكيفية ويتميز صاحب هذا
الإبداع بالعلم والعقل
اللامتناهيين الذين نراهما في
الطبيعة.
و بلا شك فإن صاحب هذا العلم
والعقل هو الله سبحانه
وتعالى. وذكر الله سبحانه
وتعالى في الذكر الحكيم نحل
العسل كمثال على إلهامه
الكائنات الحية لاتباع سلوك
معين، أي أن الغريزة التي
يرددها دعاة نظرية التطور أو
كما يقولون: " إن الحيوانات
مبرمجة على آداء سلوك معين"
ما هي إلا إلهام إلاهي لهذه
الكائنات الحية, وهذه الحقيقة
مذكورة في القرآن الكريم:"
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي
من الجبال بيوتا ومن الشجر
ومما يعرشون ثم كلي من كل
الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا
يخرج من بطونها شراب مختلف
ألوانه فيه شفاء للناس إن في
ذلك لأية لقوم يتفكرون" سورة
النحل الآية 68-69 "
ودعاة نظرية التطور يغمضون
أعينهم أمام هذه الحقيقة
لإنكار الوجود الإلهي، وهم
بالتأكيد قد رأوا ومازالوا
يرون الأنماط السلوكية
للحيوانات ومازالوا يبحثون عن
تفسير لها ويعلمون يقينا عدم
قدرة نظرية التطور على تفسير
هذه السلوكيات تفسيرا منطقيا.
وكثيرا ما نجد عبارات وجملا
مألوفة عند قراءتنا لمؤلفين
من دعاة هذه النظرية ومن هذه
العبارات:"..لإنجاز هذا العمل
لابد من وجود عقل ذو مستوى
عال ولكون الحيوانات لاتملك
مثل هذا العقل فإن العلم يعجز
عن الإجابة عن هذا السؤال ".
ونورد المثال الآتي المتعلق
بسلوك دودة القز على لسان أحد
دعاة نظرية التطور المعروفين
و يدعى Haimar Von Dithfurth
هيرمان فون ديثفورت حيث يقول
: إن فكرة اتخاذ الأوراق
الثابتة المتعددة كوسيلة
للتمويه فكرة باهرة, ترى من
يكون صاحب هذه الفكرة؟ من
صاحب هذه الفكرة الذكية التي
تقلل من احتمال عثور الطير
على الفريسة التي يبحث عنها؟
ولابد للدودة أن تكون قد
تعلمت بالوراثة من صاحب هذه
الفكرة الذكية …كل هذه
الظواهر لابد أن تتوفر لدى
إنسان ذكي للغاية يحاول أن
يظل على قيد الحياة ولابد لنا
أن نقبل بهذه الحقيقة، علما
أن لدودة القز جهازا عصبيا
بسيطا للغاية فضلا عن بدائية
سلوكها الحياتي, وتفتقر هذه
الدودة إلى القدرة على
قابليّة تحديد هدف معين
والتحرك باتجاه هذا الهدف.
ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة
أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع
عن نفسها وهي بهذا الضعف من
التكوين ؟ .وعندما جابه علماء
الطبيعة الأقدمون مثل هذه
الظواهر لم يجدوا لها تفسيرا
إلاّ بـالمعجزة أي تبنوا فكرة
وجود قوة غير طبيعية خلاقة أي
آمنوا بوجود الله الذي يعطي
مخلوقاته آليات معينة للدفاع
عن النفس. وبالنسبة إليّ هذه
الطريقة في التفكير تعتبر
بمثابة انتحار لعالم أو باحث
في الطبيعة ومن جانب آخر يقوم
العلم الحديث بتفسير هذه
الظواهر تفسيرا خاليا من أي
معنى عبر التمسك بمفهوم
الغريزة، لأنه على عكس ما
يعتقده أغلبنا فإن تفسير
السلوك بالغريزة يعني اكتساب
الحيوان لهذه الأنماط
السلوكية بالولادة، وهذا
التفسير لا يقدم ولا يؤخر في
تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن
إجابة محددة وواضحة، ولا يمكن
الحديث عن السلوك العقلاني
لدودة القز التي تفتقد وجود
مثل هذا العقل.
ومرة أخرى نعود إلى الحديث
حول السلوك المعين للحيوانات
فإن هناك ما يفرض نفسه أمام
أعيننا وهو الترتيب العقلاني
لهذه الأنماط السلوكية، ولو
لم يكن هذا السلوك المعين مثل
تحديد الهدف أو التحسب
للمستقبل أو توقع ما يمكن أن
يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب
رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه
كعلامة على وجود عقل مدبر
ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا
السلوك ؟" (5).
هذا الكلام يقوله هذا المتبني
لنظرية التطور وهو يحلل أو
يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي
لسلوك دودة القز, هذا السلوك
العقلاني والمدروس، ولا يمكن
أن نجد في مثل هذه الكتب
والإصدارات إلا أسئلة بدون
ردود واضحة أو تناقضات فكرية
لا تؤدي إلاّ إلى طريق مسدود.
حتى صاحب النظرية تشارلس
دروين نفسه قد اعترف بهذه
الحقيقة فذكر أن سلوك
الحيوانات وغرائزها تشكل
تهديدا واضحا لصحّة نظريته
وذكر ذلك في كتابه "أصل
الأنواع" عدة مرات وبصورة
واضحة لا لبس فيها : "أغلب
الغرائز تمتاز بتأثير بالغ
وتثير درجة كبيرة من الحيرة،
وكيفية نشوئها وتطورها ربما
تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم
نظريتي من الأساس" (6).
أما نجل تشالس داروين المدعو
فرانسيس داروين فقد قام
بتحليل وشرح رسائل أبيه في
كتاب أسماه "الحياة ورسائل
تشارلس داروين" "the life and
letters of darwin" وذكر مدى
الصعوبات التي واجهها داروين
في تفسيره للغرائز قائلا :في
الكتاب (يعني أصل الأنواع )
وفي الباب الثالث منه يتحدث
في القسم الأول عن العادات
الحيوانية والغرائز والاختلاف
الحاصل فيها ..والسبب في
إدخال هذا الموضوع في بداية
الباب تشريد فكر القراء عن
إمكانية رفضهم لفكرة تطور
الغرائز بالانتخاب الطبيعي،
ويعتبر باب الغرائز من أصعب
المواضيع التي احتواها كتاب
"أصل الأنواع" (7).
الغرائز لا يمكن أن تتطور
إنّ دعاة نظرية التطور
يجادلون بكون أغلب سلوك
الحيوانات نتيجة للغريزة،
ولكن كما أسلفنا القول في
الصفحات السابقة لا يستطيعون
إيراد تفسير مقبول عن كيفية
نشوء الغرائز و لا عن كيفية
ظهور الغريزة لأول مرة و لا
عن كيفية اكتساب الحيوانات
لهذه الغرائز، ولو حوصر أحدهم
بالأسئلة لتعلق بالإدعاء
التالي: "تكتسب الحيوانات
أنماطا سلوكية عن طريق
التجربة ويتم انتقاء الأقوى
بواسطة الانتخاب الطبيعي. وفي
مرحلة لاحقة يتم توارث هذه
الأنماط السلوكية الناجحة عبر
الأجيال المتعاقبة".
وهناك أخطاء منطقية ولا يمكن
أن يقبلها العقل في هذا
الإدعاء، ودعونانتفحص هذه
الأخطاء بالتسلسل:
1-الأخطاء الكامنة في المقولة
: اختيار السلوكيات المفيدة
عبر الانتخاب الطبيعي:
إنّ الانتخاب الطبيعي يعتبر
الحجر الأساس لنظرية "تشارلس
دروين" الخاصة بـالتطور.
والانتخاب الطبيعي يعني
اختيار أي تغيير مفيد وصالح
للكائن الحي (قد يكون هذا
التغيير هيكليا أو سلوكيا )
واختيار ذلك الكائن الحي
لتوريث ذلك التغيير للأجيال
اللاحقة .
وهناك نقطة مهمة في هذا
الإدعاء يجب أن لا نغفل عنها
وهي: كون الطبيعة حسب ادعاء
داروين تعتبر المحك لتمييز
المفيد من الضار وهي القوة
المؤثرة والعاقلة في الوجود
ولكن لا يوجد في الطبيعة ما
يميز بين الضار والمفيد كقوة
مؤثرة حيث لا يوجد بين
الحيوانات أو غير الحيوانات
ما يملك قرار ذلك أو القابلية
على اتخاذ هذا القرار، فقط من
خلق الطبيعة وما تحتويه وخلق
كل شيء يملك العقل والمنطق
والقدرة على تمييز الضار من
المفيد.
في الحقيقة داروين يعترف
بنفسه باستحالة اكتساب
السلوكيات المفيدة عن طريق
الانتخاب الطبيعي إلا أنه
يعود و يدافع عن وجهة نظره
التي هي محض خيال واستمر في
الدفاع عن رأيه بالرغم من
كونها هرطقة وغير منطقية حيث
يقول: في النهاية يمكن اعتبار
الغرائز التي تجعل زغلول
الحمام يطرد إخوانه غير
الأشقّاء من العش، وتجعل
مملكة النحل مقسمة إلى خدم
وملكة ليست غرائز موهوبة أو
مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة
لدستور عام لعالم الأحياء
وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى
مهمة التكثير و التغيير عبر
انتقاء الأصلح من الأضعف.
ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي
منطقيا ولكنه قريب إلى
الأفكار التي تدور في مخيلتي
(8).
ويعترف داعية آخر لنظرية
التطور وهذه المرة في تركيا
وهو البروفيسور جمال يلدرم
بأن عاطفة الأمومة لدى الأم
لا يمكن تفسيرها بواسطة
الانتخاب الطبيعي ويقول بهذا
الصدد :
"هل توجد إمكانية لتفسير
عاطفة الأمومة تجاه الأبناء
بواسطة نظام أعمى يفتقد إلى
مشاعر روحية مثل نظام
الانتخاب الطبيعي ؟ وبلا شك
فشل علماء الأحياء ومنهم
مؤيدو داروين في إيراد جواب
مقنع لهذا السؤال. وهنالك
صفات معنوية لدى الكائنات
الحية غير عاقلة و بما أنها
لا تستطيع أن تكتسب هذه
الصفات بإرادتها فإذن يجب أن
يكون هناك من منحها هذه
الصفات، وحيث أن الطبيعة و
قانون الانتخاب الطبيعي
عاجزان عن إكساب الأحياء هذه
الطبيعة المعنوية بسبب كونهما
يفتقدان للصفات المعنوية،
والحقيقة الساطعة كالشمس
تتمثل وجود كافة الأحياء تحت
العناية الإلهية و تدبيره
المحكم، ولهذه الأسباب
المتقدمة نستطيع أن نشاهد في
الطبيعة أنماطا سلوكية لبعض
الحيوانات تثير الحيرة
والاستغراب وتجعلنا نتساءل:
كيف تسنى لهذا الحيوان
الاهتداء إلى هذا السلوك ؟
وكيف يستطيع هذا الحيوان أو
ذلك التفكير بهذه الطريقة؟
2-الأخطاء الخاصة بتوارث
السلوكيات المفيدة والمنتخبة
عبر الانتخاب الطبيعي:
الخطوة الثانية لمؤيدي داروين
هي ادعاؤهم بأن السلوكيات
المفيدة والمنتخبة عبر
الانتخاب الطبيعي يتم توارثها
عبر الأجيال وهذا الإدعاء
ضعيف وهش للغاية من مختلف
الوجوه. قبل كلّ شيء فإن أي
سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن
طريق التجربة لا يمكن توريثه
لجيل لاحق بأي حال من الأحوال
لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك
الجيل وحده ولا يمكن إدخال
هذه التجربة السلوكية الجديدة
المكتسبة في البناء الجيني
للحيوان إطلاقا .
ويقول Gordon R.Taylor مبديا
رأيه المناهض لرأي أولئك
الذين يدعون توارث الأنماط
السلوكية عبر الأجيال
المتعاقبة بما يلي :" يدعي
علماء الأحياء بأن هناك
إمكانية لتوارث الأنماط
السلوكية عبر الأجيال
المتعاقبة ويمكن مشاهدة هذه
الظاهرة في الطبيعة مثلا
العالم :Dobzhansky يدعي بأن
جميع وظائف جسم الكائن الحي
ما هي إلاّ نتاج التوارث
النّاتج بتأثير العناصر
والعوامل المتوفرة في المحيط
الخارجي، وفي هذه الحالة يكون
الأمر مقبولا بصورته النهائية
بالنسبة لجميع أنواع الأنماط
السلوكية، ولكن هذا غير صحيح
بالمرة ويعتبر أمرا محزنا أن
يكون هذا رأي عالم له مكانته
مثل Dobzhansky . ويمكن القول
أن هنالك بعض الأنماط
السلوكية لبعض الأحياء يتم
توارثها عبر الأجيال اللاحقة
ولكن لا يمكن تعميم الأمر على
جميع الأنماط السلوكية" .
والحقيقة الظاهرة للعيان عدم
وجود أي دليل علمي يمكن
بواسطته إثبات توارث بعض
الأنماط السلوكية بواسطة
الخريطة الجينية للكائن الحي
والمعروف أن الجينات مسؤولة
فقط عن بناء البروتينات حيث
يتمّ بناؤها أكثر من إفراز
بعض الهرمونات لتتم السيطرة
على سلوك الكائن الحي (بصورة
عامة) وعلى سبيل المثال أن
يكون الحيوان نشيطا أو بالعكس
خاملا أو أن يكون الوليد أكثر
ارتباطه بأمه، ولكن لا يوجد
أي دليل يثبت توارث السلوك
الخاص الذي يجعل الحيوان يبني
عشه بالترتيب والتزامن
والانتظام المعروف0
ولو كان الأمر كذلك فإذن ما
هي الوحدات الوراثية المسؤولة
عن عملية التوريث ؟ لأن هناك
فرضيات تثبت وجودها، ولم
يستطع أحد الإجابة عن هذا
السؤال (10).
وكما أفاد به Gordon R.Taylor
فإن الادعاء بكون الأنماط
قابلة للتوارث أمر غير مقبول
علميا، فبناء الطيور لأعشاشها
وإنشاء القندس للسدود وإفراز
عاملات نحل العسل للشمع يقتضي
وجود نوع من الأنماط السلوكية
المعقدة كالتصميم والتخطيط
للمستقبل و هذه لا يمكن
توارثها عبر الأجيال وهناك
مثل آخر يفرض نفسه بشدة وهو
المتعلق بسلوك العاملات
القاصرات في مملكة النمل .
فهذه العاملات لها سلوك خاص
تتميز به يقتضي منها أن تكون
على دراية تامة بالحساب وذات
خبرة واسعة، ولكن هذه الأنماط
السلوكية لعاملات النمل لا
يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب
وحيد كونها قاصرات ولا يمكن
لها التكاثر لذا فلا تستطيع
توريث هذه الأنماط السلوكية
لأجيال لاحقة، ومادام الأمر
كذلك ينبغي توجيه السؤال
الآتي لدعاة نظرية التطور :
كيف تسنى لأول نملة عاملة
قاصرة أن تورث هذه الأنماط
السلوكية لأجيال لاحقة من
العاملات القاصرات وهي
بالتأكيد لا تستطيع التكاثر ؟
وما تزال هذه العاملات سواء
كانت نملا أو نحلا أو أي
حيوان آخر تعمل منذ ملايين
السنين بهذا السلوك الذي يعكس
مدى العقلانية والقابلية
والتكافل و الانتظام وتوزيع
الأدوار بدقة إضافة إلى روح
التضحية إلا أن هذه المخلوقات
لم تستطع البتة أن تورث هذه
الأنماط السلوكية منذ خلقت
لأول مرة .
ولا يمكننا القول بأن هذه
المخلوقات قد بذلت جهدا في
اكتساب هذه الأنماط السلوكية
لأنها تبدأ في اتباع هذا
السلوك منذ اللحظات الأولى
لوجودها على وجه الأرض بأكمل
صورة. ولا تصادف في أي طور من
أطوار حياتها أية مرحلة
للتعليم و جميع سلوكها مكتسب
بالفطرة, وهذا الأمر جائز مع
جميع الكائنات الحية. إذن فمن
الذي علم الكائنات الحية تلك
الأنماط السلوكية ؟ وهو
السؤال نفسه الذي طرحه داروين
قبل 150سنة ولم يستطع دعاة
نظرية التطور الإجابة عنه، و
هناك تناقض عبر عنه داروين
نفسه قائلا :
"إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن
فرضية اكتساب الأنماط
السلوكية الغريزية بالتطبع
وتوريثها إلى أجيال لاحقة،
لأننا كما نعلم هناك غرائز
محيرة للغاية كتلك التي عند
النمل أو النحل ولا يمكن
البتة اكتسابها بالتطبع"
(11).
فلو افترضنا أن النملة
العاملة أو أية حشرة أخرى قد
اكتسبت جميع صفاتها المتميزة
عبر الانتخاب الطبيعي
وبالتدرج, أي افترضنا أنها
عملية انتخاب للصفات الصالحة
ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى
أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة
وفي كل مرة يتم انتخاب صفات
مفيدة وتورث إلى جيل لاحق
وهكذا, لو افترضنا ذلك لأصبحت
فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد و
هو عدم تشابه النملة العاملة
مع أبويها إلى حد كبير إضافة
إلى كونها عقيمة, و لهذا فهي
لا تستطيع توريث الصفات
والأنماط السلوكية الجديدة
المكتسبة إلى الأجيال
اللاحقة. وهنا يطرح السؤال
نفسه: كيف يمكن تفسير هذه
الحالة بواسطة الانتخاب
الطبيعي (1).
ويعبر جمال يلدرم أحد
المؤمنين بنظرية التطور عن
التناقض الذي وقع فيه
المتبنّون لهذه النظرية:
ولنأخذ على سبيل المثال
الحشرات التي تعيش على شكل
مجتمعات مثل النمل أو النحل,
فهذه الحشرات عقيمة وليست
لديها أية إمكانية لتوريث أية
صفات حيوية جديدة تنقلها إلى
أجيال لاحقة إلا أنها تبدي
تكيفا مدهشا مع ظروف المحيط
الذي توجد فيه وعلى أعلى
المستويات. (13)
ويتضح مما تقدم من اعترافات
العلماء و أقوالهم استحالة
تفسير الأنماط السلوكية
المحيرة لهذه الكائنات الحية
بواسطة نظرية التطور لأن هذه
الأنماط السلوكية لم تكتسب
عبر الانتخاب الطبيعي ولا
يمكن توريثها إلى أجيال
لاحقة.
3-سقوط فكرة تطور الغرائز
بتطور الأحياء
تدعي نظرية التطور بأن
الكائنات قد نشأت عن بعضها
البعض عبر التطور. ووفقا لهذه
النظرية تكون الزواحف قد نشأت
من الأسماك والطيور من
الزواحف... ولكن يجب أن لا
ننسى أن النوع الواحد يختلف
تماما من حيث السلوك حيث
تختلف السمكة عن الزواحف من
حيث السلوك اختلافا كليا.
ويدور السؤال التالي: هل تعرض
سلوك الكائن الحي إلى تطور
كما تعرض بناؤه الحيوي
البيولوجي الى تطور؟
وهذا التساؤل يعتبر أحد
التناقضات والمآزق الفكرية
التي وقع فيها دعاة نظرية
التطور وقد وضع داروين إصبعه
على هذا التناقض وتوصل الى
استحالة اكتساب الغرائز
بالانتخاب الطبيعي وتغيرها
بالتطور حيث تساءل قائلا: هل
من الممكن اكتساب الغرائز
بالانتخاب الطبيعي وتطويرها
وتغييرها فيما بعد ؟ ماذا
يمكننا القول أمام بناء نحل
العسل لخليته بهذا الشكل
الهندسي الذي سبق أخصّائيّي
الرياضيات بزمن سحيق ماذا
يمكننا القول أمام هذه
الغريزة (14). وهذا التناقض
يمكن إيراد الأمثلة المختلفة
عليه من كافة أنواع الحيوانات
كالأسماك والزواحف والطيور.
فالأسماك لها صفات خاصة بها
من حيث التكاثر والصيد
والدفاع عن النفس فضلا عن
إنشاء منازلها بطريقتها
الخاصة، وهذه الصفات الخاصة
في حالة تلائم تماما الوسط
المائي الذي تعيش فيه. وهناك
بعض الأنواع من الأسماك تقوم
بلصق بيضها تحت الأحجار
الموجودة في قاع البحر وبعد
لصقها لبيضها تقوم برفرفة
زعانفها فوقها لتتيح أكبر
كمية من الأكسيجين اللازمة
لتنفس الأجنة الموجودة داخل
البيض.أمّا الطيور فتضع بيضها
في أعشاش ذات بناء خاص تبنيها
لهذا الغرض وترقد على بيضها
مدة زمنية محددة لازمة لفقس
البيض .
أما التماسيح والتي تعتبر
حيوانات برية فتملك سلوكا
معاكسا تماما فتقوم بدفن
بيضها تحت الرمال مدة شهرين
كاملين لازمة لفقسها، وهناك
بعض الأسماك تقوم بوضع بيضها
داخل الأحجار الموجودة في قاع
البحر ومن جانب آخر هناك بعض
الحيوانات البرية تقوم ببناء
مساكنها على أطراف الأشجار
العليا باستخدام الأغصان
وقشور الأشجار، أما الطيور
فتنشأ أعشاشها باستخدام
الأعشاب والنباتات البرية أما
اللبان التي يدعون أنها نشأت
من الزواحف فتختلف من حيث
التكاثر اختلافا كليّا عن
باقي الكائنات الحية . فبينما
تكون باقي الحيوانات تتكاثر
بالبيض تتكاثر اللبان بأن
تحمل أجنتها داخل بطونها
أشهرا عديدة وبعد أن تضع
جنينها تقوم بتغذيته باللبن
الذي يفرزه جسمها.
وهناك أسلوب للصيد مختلف لكلّ
نوع من أنواع الأحياء, فبينما
يبقى بعضها كامنا للصيد فترة
طويلة يكون البعض منها متخفيا
بلون المكان الموجود فيه
والبعض الآخر يعتمد على
السرعة والمباغتة. وكما يتضح
هناك اختلاف كبير وشاسع بين
الحيوانات البرية والحيوانات
المائية وكلّ نوع يتميز
باختلاف واضح حسب الوسط الذي
يعيش فيه.
من هذا العرض نستنتج أن
التغيير في الغرائز ينبغي أن
يكون مصاحبا للتطور الحاصل في
الأحياء. على سبيل المثال أن
تصبح السمكة التي تضع بيضها
تحت أحجار قاع البحر وترفرف
بزعانفها رعاية لها حيوانا
بريّا تقوده غريزته المتطورة
إلى بناء أعشاش خاصة على
أطراف الأشجار و يرقد على
البيض مدة معينة لأجل
تفقيسها. وهذا الأمر محال
طبعا، والاستحالة الأخرى في
هذا الموضوع يمكن توضيحها
بفرض عدم استطاعة الكائن الحي
العيش نتيجة عدم ملاءمة سلوكه
غير المتطور لبنيته المتطورة
نتيجة تغير الوسط الذي يعيش
فيه حيث لا تستطيع السمكة
التي تتقن التّخفي في البحر
العيش إلا بعد إيجادها وسيلة
جديدة للدفاع, بالإضافة إلى
ضيق الوقت لتحقيق ذلك لأنه
يجب أن تقوم بتغيير سلوكها
وطريقة حياتها وبناء جسمها
بصورة مستمرة وإلاّ فإنها
معرضة للهلاك وانقراض نسلها.
ومن الواضح أنه لا يوجد حيوان
غير عاقل يمتلك القابلية
لاتخاذ مثل هذا القرار السريع
والإستراتيجي الّذي يتطلب قوى
عقلية . إذا فكيف يتم تفسير
سلوك الحيوانات الملائم لبناء
أجسامها وشروط الوسط الذي
تعيش فيه ؟ وأدلى داروين
بدلوه في هذا الخصوص في معرض
رده على النـقد الموجه لكتابه
"أصل الأنواع " قائلا : كان
هناك اعتراض على فكرة أصل
الأنواع مفاده أنه ينبغي أن
يكون التغيير الحاصل في بناء
الكائن الحي متزامنا مع
التغيير في غرائزه فضلا عن
كونهما متلائمين مع بعضهما
لأن أي تباين يحدث بينهما
يعني الموت المحتم "(15).
يتضح مما تقدم أنه لا يمكن
تفسير سلوك الحيوان بواسطة
التطور عبر الزمن أو بالصدفة
أو بتأثير الطبيعة الأم. إذن
فكيف اكتسبت الكائنات الحية
تلك الصفات والخصائص التي
تتيح لها مواصلة حياتها؟
والجواب على السؤال في غاية
الدقة والوضوح . فالإنسان
المطلع على طريقة معيشة
الأحياء يستطيع أن يرى
استحالة تشكل هذه الأنماط
السلوكية من تلقاء ذاتها أو
بواسطة سلسلة من المصادفات.
ومصدر هذه الأنماط السلوكية
لا يوجد في أجسامها ولا في
المحيط الذي تعيش فيه. إذن
فهناك عقل وقوة لا يمكن
رؤيتهما بالعين المجردة
يقومان بإدارة سلوك هذه
الكائنات الحية. ولا شك أن
صاحب هذا العقل وهذه القوة هو
الله سبحانه وتعالى والذي
وسعت رحمته كل شيء.
والنتيجة: أنّ كل الكائنات
الحية تتحرك بواسطة إلهام
إلهي.
كما ذكرنا في الصفحات السابقة
واجه دعاة نظرية التطور
إشكاليات كبيرة تتعلق بتفسير
سلوك الحيوانات في حين أنّ
الحقيقة واضحة جلية وهي عدم
استطاعة الكائن الحي غير
العاقل أن يقوم بتمييز الفروق
الواضحة أو أن يقوم بالربط
بين الوقائع أو اتخاذ قرار
صحيح, فضلا عن عدم قدرته على
التخطيط لعدة مراحل مقبلة إلى
جانب أشياء أخرى تتطلب عقلا
وتفكيرا و إدراكا. ويقول دعاة
التطور إنّ هذه الكائنات
الحية مبرمجة على أداء هذه
الأعمال، إذن من هو الذي وضع
هذا البرنامج ؟ و ما هي القوة
التي تجعل نحل العسل يفرز
الشمع الخاص لبناء الخلية ؟
والجواب واضح ودقيق، والإنسان
الذي لديه علم بطريقة معيشة
الأحياء ولوعلم بسيط يستطيع
أن يتوصل إلى عدم إمكانية
تولد هذه الأنماط السلوكية من
تلقاء نفسها أو محض الصدفة بل
الواضح أن هناك قوة تحكم هذه
الطبيعة وتديرها ولها تأثير
مباشر على سلوك الكائنات
الحية. وصاحب هذه القوة بلا
شك هو الله الخلاق العليم. و
نظرية تعجز أن تفسر كيفية خلق
الكائن الحي لابد لها أن تقف
عاجزة أمام تفسير سلوك ذلك
الكائن الحي ومصدره. لذا
فإجراء الأبحاث حول سلوك
الكائنات الحية له أهمية قصوى
بلا شك لأن هذه الأبحاث تثبت
أنه لا يوجد كائن حيّ يعيش
جزافا أو دون ضابط، فالله
سبحانه وتعالى وحده هو الذي
يقوم بخلق الكائن الحي من
العدم ويدبر أموره ويراقبه في
كل حين وينظم له سلوكه
بقدرته, ربّ السماوات والأرض
وما بينهما، وهذه الحقيقة
وردت في القرآن الحكيم . يقول
الله تعالى في كتابه الكريم:"
إني توكلت على الله ربي وربكم
ما من دابة إلاّ هو آخذ
بناصيتها إنّ ربي على صراط
مستقيم ". سورة هود الآية 56.
روح التضحية لدى الكائنات
الحية تفنّد ادعاء داروين بأن
البقاء للأقوى
مثلما أسلفنا القول في
الصفحات السابقة فإن الأمر
حسب ادعاء داروين يعتمد على
قانون الانتخاب الطبيعي, أي
أنّ الكائنات الحية التي
تستطيع أن تتكيف مع شروط
الوسط الذي تعيش فيه تستطيع
مواصلة حياتها والحفاظ على
نسلها, و أمّا الكائنات
الضعيفة التي لا تستطيع
التكيف مع تلك الشروط فهي
معرضة للهلاك والفناء، و بناء
على هذا يكون التعريف المنطقي
للطبيعة وفقا لقانون الانتخاب
الطبيعي لـداروين هو المكان
الذي تقوم فيه الكائنات الحية
بكفاح مرير فيما بينها من أجل
البقاء فيبقى القوي و يفنى
الضعيف.
واستنادا إلى هذا التعريف
ينبغي على كل كائن حي أن يكون
قويا ومتميزا بالقوة عن
الآخرين في سبيل الكفاح
والبقاء. و في وسط مثل هذا لا
يمكن الحديث عن بعض الميزات
مثل الإيثار والتضحية
والتكافل, فهذه الميزات قد
تصبح ذات آثار سلبية على
الكائن الحي نفسه. ويتميز
الكائن الحي وفقا لهذا المنطق
بمنتهى الأنانية ولا همّ له
سوى البحث عن الغذاء وإنشاء
البيت الذي يؤويه وأن يحمي
نفسه من خطر الأعداء.
و لكن هل صحيح أن الطبيعة هي
المكان الذي يضمّ كائنات حية
تخوض فما بينها صراعا مريرا
للقضاء على بعضها البعض
بمنتهى الوحشية والأنانية ؟.
إن الأبحاث الجارية بهذا
الشأن حتى يومنا هذا قد أبطلت
ادّعاءات دعاة التطور.
فالطبيعة ليست كما زعم هؤلاء
من أنها تمثل ساحة للحرب بين
الأحياء، إنّ الطبيعة على
خلاف ذلك تحوي بين جيناتها
أمثلة حية للتضحية بالنفس في
سبيل الآخرين. وهناك أمثلة لا
يمكن حصرها تكشف صورا غاية في
التضحية من أجل الغير تملأ
أركان الطبيعة ويذكر جمال
يلدرم في كتابه "التطرف
وقانون التطور ".
إن الأسباب التي جعلت داروين
وغيره من رجالات العلم في
عصره يصورون الطبيعة على أنها
تمثل مسرحا للحرب بين الأحياء
يمكن إجمالها في النقاط
التالية: كان رجال العلم في
القرن التاسع عشر يقبعون في
مختبراتهم أو أماكن عملهم
لمدة طويلة ولا يدرسون
الطبيعة ميدانيا و لهذا ذهب
خيالهم ببساطة إلى الاستسلام
لفكرة كون الكائنات الحية في
حالة حرب صامتة فيما بينها،
وعالم فذ مثل هالي Haley لم
يستطع إنقاذ نفسه من براثن
هذا الوهم (16).
أما العالم بتر كروبوتكين
Peter Kropotkin الذي يؤمن
أيضا بنظرية التطور فيذكر في
كتابه Mutual Aid:A Factor in
Evolution أو " الهدف المشترك
: العامل المؤثر في التطور "
الخطأ الذي وقع فيه داروين و
مؤيدوه قائلا : داروين و
مؤيدوه عرّفوا الطبيعة على
أنها مكان تخوض فيه الكائنات
الحية حروبا مستمرة بين بعضها
البعض. و يصور هاكسلي Haxley
عالم الحيوان باعتباره حلبة
مصارعة تقوم فيه الحيوانات
بصراع مرير فيما بينها و تكون
الغلبة من بينها للذكي
والسريع وهو الذي يستطيع
العيش ليبدأ في اليوم التالي
صراعا جديدا وهكذا. و يتبين
لنا منذ الوهلة الأولى أن
وجهة نظر هكسلي بشأن الطبيعة
ليست علمية ….(17).
وهذا الوضع يعتبر شاهدا على
عدم استناد نظرية التطور إلى
ملاحظات علمية، ويغلب على
العلماء من دعاة هذه النظرية
التزمت الفكري في دعمهم
للنظرية التي يؤمنون بها من
خلال تحليل بعض الظواهر
الموجودة في الطبيعة وفقا
لهواهم. والحقيقة أن الحرب
التي يدعي داروين أنّها تنتشر
في أرجاء الطبيعة تبين أنها
خطأ كبير لأننا لا نجد في
الطبيعة الأحياء التي تكافح
من أجل البقاء فقط بل نجد
أيضا كائنات حية تبذل تعاونا
ملحوظا نحو الكائنات الحية
الأخرى, والأعجب من هذا أنها
تؤثرها أحيانا على نفسها.
ولهذا السبب يعجز دعاة التطور
عن تفسير ظواهر الإيثار لدى
بعض الكائنات الحية. و ورد في
مقال صادرة في إحدى المجلات
العلمية النص التالي الذي
يصور عجز هؤلاء: " المشكلة
تكمن في السبب الذي من أجله
تتعاون الكائنات الحية،
وبالنسبة إلى نظرية داروين
فهي تقول إنه ينبغي على كل
كائن حي أن يكافح من أجل
البقاء والتكاثر، ومعاونة
باقي الكائنات الحية يقلل من
فرص نجاح ذلك الكائن الحي في
البقاء وعلى هذا الأساس ينبغي
أن يزال هذا النمط السلوكي
عبر التطور، ولكن الملاحظ أن
الإيثار لا يزال موجودا في
سلوك الكائنات الحية (18).
وأبسط مثال على الإيثار هو
سلوك عاملات النحل فإنها تقوم
بلسع أي حيوان يدخل إلى
خليتها وهي تعلم يقينا أنها
ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى
مغروزة في الجسم الذي تلسعه و
نظرا لارتباط هذه الإبرة
الوثيق بالأعضاء الداخلية
للحشرة فإنها تسحب معها هذه
الأعضاء خارجا متسببة في موت
النحلة. ويتضح من ذلك أنّ
النحلة العاملة تضحي بحياتها
من أجل سلامة باقي أفراد
الخلية .
أمّا ذكر البطريق و أنثاه
فيقومان بحراسة عشهما حتى
الموت، فالذكر يسهر على رعاية
الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة
أربعة أشهر متصلة دون انقطاع،
ولا يستطيع طيلة هذه الفترة
أن يتناول شيئا من الغذاء
أماّ الأنثى فتذهب إلى البحر
لتجلب الغذاء و هي تجمعه في
بلعومها وتأتي به إلى فرخها
ويبديان تفانيا ملحوظا من أجل
فرخهما .
و يعرف عن التمساح كنه من
الحيوانات المتوحشة إلا أنّ
الرعاية التي يوليها لأبنائه
تثير الحيرة الشديدة, فعندما
تخرج التماسيح الصغيرة بعد
فقس البيض تقوم الأم بجمعها
في فمها حتى تصل بها إلى
الماء ثم تعكف على رعايتها
وتحملها في فمها أو على ظهرها
حتى تكبر و يشتد عودها و تصبح
قادرة على مواجهة المصاعب
بنفسها، وعندما تشعر التماسيح
الصغيرة بأي خطر سرعان ما
تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم
أمّها و هو الملجأ الأمين
بالنسبة أليها. إن هذا السلوك
يثير الاستغراب خاصة إذا
علمنا أن التماسيح حيوانات
متوحشة والمنتظر منها أن تأكل
أبناءها و تلتهمهم لا أن
ترعاهم و تحميهم..
وهناك بعض الأمهات من
الحيوانات تترك القطيع الذي
تعيش فيه لترضع أولادها,
فتتخلف الأم مع ولدها و تضل
ترضعه حتى يشبع عن معرّضة
حياتها لخطر جسيم. والمعروف
عن الحيوانات أنها تهتم
بأولادها الذين ولدوا حديثا
أو الذين خرجوا من البيض لمدد
طويلة تصل إلى أيام أو أشهر
أوحتّى بضع سنين فتوفر هذه
الحيوانات لصغارها الغذاء
والمسكن والدفء و تقوم
بالدفاع عنهم من خطر الأعداء
المفترسين. وأغلب أنواع
الطيور يقوم بتغذية صغاره من
4-20 مرة في الساعة خلال
اليوم الواحد, أماّ إناث
اللبان فأمرها مختلف إذ يتحتم
عليها أن تتغذى جيدا عندما
ترضع صغارها حتى توفر لهم
اللبن الكافي, وطيلة هذه
الفترة يزداد الرضيع وزنا
بينما تفقد الأم من وزنها
بشكل ملحوظ.
أما الطبيعي و المتوقع في هذه
الحالات فهو أن تهمل هذه
الحيوانات غير العاقلة صغارها
و تتركها و شأنها لأن هذه
الحيوانات غير العاقلة لا
تفهم معنى الأمومة أو العطف و
لكنها بالعكس من ذلك تتحمل
مسؤولية رعايتها و الدفاع
عنها بشكل عجيب.
و لا تقوم الأحياء باتخاذ مثل
هذا السلوك مع صغارها فقط
وإنما قد تبدي العطف نفسه
والحنان نفسه إزاء الحيوانات
الأخرى أو الأفراد الأخرى
التي تعيش معها في المجموعات
نفسها، و يمكن ملاحظة ذلك
عندما تشح مصادر الغذاء,
فالمتوقع في مثل هذه الحالات
العصيبة أن ينطلق القوي منها
ليبيد الضعيف ويستحوذ على ما
يوجد من الغذاء، غير أنّ الذي
يحدث هو عكس ما يتوقعه دعاة
التطور. و يورد كروبوتكين و
هو معروف بتأييده لهذه
النظرية أمثلة عديدة تتعلق
بهذا الموضوع منها مثلا: يبدأ
النمل بتناول ما ادخره عندما
تشحّ مصادر الغذاء بينما تبدأ
الطيور بالهجرة بشكل جماعي
إلى مكان آخر, كما تتوجه
القنادس الشابة إلى الشمال
والكبيرة في السن إلى جنوب
الأنهار حيث تعيش هناك مزدحمة
(19).
والذي يفهم من هذه الأمثلة
أنه لا وجود لمنافسة أو
مزاحمة بين الحيوانات من أجل
الغذاء بل بالعكس يمكن مشاهدة
أمثلة عديدة للتعاون والتضحية
بين الحيوانات حتى في أقسى
الظروف. و هي تعمل في أحيان
كثيرة على التخفيف من وطأة
الظروف و قسوتها. و مع هذا
فهناك مسألة يجب أخذها بعين
الإعتبار وهي أن أيّا من هذه
الحيوانات لا تملك عقلا أو
فكرا يجعلها تتخذ هذه
القرارات وتنشئ هذا النظام.
إذن فكيف يمكن تفسير تجمع هذه
الحيوانات في مجموعات ذات هدف
واحد وتعمل مجتمعة لتحقيق هذا
الهدف المشترك؟.
بلا شك إن الذي خلق هذه
الأحياء وألهمها اتباع ما
ينفعها والذي يحافظ عليها هو
الله رب العالمين جلّت قرته .
و يقول الله سبحانه وتعالى في
كتابه المبين عن كيفية رعايته
الإلهية للكائنات "و ما من
دابة في الأرض إلاّ على الله
رزقها و يعلم مستقرها و
مستودعها كلّ في كتاب مبين ".
سورة هود الآية 6
أمام هذه الحقائق في الطبيعة
تسقط ادعاءات دعاة التطور عن
كون الطبيعة مسرحا للحرب لا
ينتصر فيها إلا من كان أنانيا
و من لا يرى سوى مصالحه فقط
ويوجهJohn Maynard Smith أحد
دعاة التطور المشهورين سؤالا
لأقرانه في الفكر يتعلق بهذا
النوع من السلوك لدى
الحيوانات: إذا كان الانتخاب
الطبيعي يعني اختيار الصفات
الصالحة للكائن الحي والتي
تضمن له بقاءه وتكاثره فكيف
يمكن لنا أن نفسر صفة التضحية
لدى بعض الحيوانات ؟ (20)
غريزة الحفاظ على النسل
مثلما اتضح في الصفحات
السابقة فإن صفة التضحية في
سلوك بعض الحيوانات لم يكن
بإمكان دعاة التطور تفسيرها.
وهناك أمثلة عديدة للتضحية في
الطبيعة تهدم الأساس الفكري
لنظرية التطور حتى إن ستيفن
جي جولد Stephen Jay Gouli
يتحدث عن التضحية في الطبيعة
كمشكلة عويصة تواجه نظرية
التطور (21).
من جانب آخر يتحدث عنها جوردن
تايلر Gorden Taylor
باعتبارها مانعا أو سدا كبيرا
أمام نظرية التطور ليعبرعن
عمق المأزق الفكري الذي يواجه
هؤلاء في دفاعهم عن هذه
النظرية. وهذه التضحية
والرأفة التي يمكن مشاهدتها
في الطبيعة تحمل مفاهيم كبيرة
وتعتبر طعنة قاتلة في جسد
نظرية أولئك الذين ينظرون الى
الطبيعة نظرة مادية بحتة
ويعتبرونها نتاج مصادفات لا
غير.
وهناك البعض من غلاة المؤمنين
بنظرية التطور فسر هذه
الظواهر تفسيرا آخر مختلفا
سماه بقانون الجين الأناني,
ورائد هذه الفكرة أحد الغلاة
في وقتنا الحاضر ويدعى
richard dawkins و هو يرى أن
التضحية التي تعبر عنها بعض
الكائنات الحية هي إلاّ نتاج
أنانيتها، وحسب قوله فإن
الحيوان عندما يبدي تضحية ما
فإنه لا يفعل ذلك دفاعا عن
الباقين بل حفاظا على جيناته
أي أنّ الأم عندما تذود عن
صغيرها فهي في الحقيقة تدافع
عن الجينات التي تولدت منها
لأنّ صغيرها عندما يتمّ
إنقاذه فإنه يستطيع أن ينقل
هذه الجينات إلى أجيال لاحقة،
وعلى هذا الأساس تصبح
الكائنات الحية بما فيها
الإنسان شبيهة بآلات لتوليد
الجينات ومسؤولة عن نقلها إلى
أجيال لاحقة.
ويدعي هؤلاء بأن الكائنات
الحية مبرمجة على الحفاظ على
النسل ونقل الجينات إلى أجيال
لاحقة ولهذا تسلك سلوكا يلائم
هذا البرنامج. ونورد مثالا
على طريقة تفكير هؤلاء
وتفسيرهم لسلوك الحيوانات من
خلال الاطّلاع على نصّ مأخوذ
من كتاب في علم الأحياء يتبنى
هذه النظرية و عنوانه:
Essentails of Biology أو
مبادئ علم الأحياء والنص كما
يلي:كيف يمكن تفسير السّلوك
الذي يقود صاحبه إلى الخطر من
أجل إنقاذ غيره؟ بعض
السّلوكيات المستندة إلى
التضحية مصدرها الجينات
الأنانية، والاحتمال الأكبر
أن تكون الكائنات الحية وهي
تعرّض نفسها للخطر في سبيل
جلب الغذاء اللاّزم لصغارها
تسلك هذا السلوك وفق برنامج
جيني محدّد, وسلوكها هذا يهدف
إلى سلامة انتقال الجينات من
الأبوين إلى الأبناء ومنهم
إلى أجيال لاحقة، ويبدوا ردّ
الفعل هذا من الكائنات الحية
تجاه أعداءها نوعا من السلوك
لتحقيق هدف معين, ويتجلى هذا
البرنامج المعين للسلوك
الحيواني في الرّائحة والصوت
والمظهر الخارجي و أشكال أخرى
(22).
ولو تأملنا في النص السّابق
لاتّضح لنا أن الكاتب يقصد
بأن الكائنات الحية في سلوكها
تبدو وكأنها تسعى إلى شيء
معين لا عن دراية وفهم بل
لأنها مبرمجة على أن تسلك مثل
هذا السلوك، وهنا يطرح السؤال
التالي نفسه: ما مصدر هذا
البرنامج؟ والجين الذي نتحدث
عنه هو شبيه بمجموعة من
الشّفرات المعلوماتية، ولكن
هذه المجموعة من الشفرات لا
تستطيع التفكير، والجين يفتقد
الذكاء والعقل والتقدير. لهذا
السبب إذا وجد جين خاص يدفع
الكائن الحي إلى التضحية فلا
يمكن أن يكون هذا الجين هو
الآمر بالتضحية. لقد صمّم
الحاسوب من قبل مصمم عاقل وذو
دراية على أن يتوقف عن العمل
عند الضغط على زر الإيقاف,
إذن فالحاسوب لا يغلق من
تلقاء نفسه و زر الإيقاف لا
يعمل بالصدفة دون مصمّم. إنّ
حدا قد برمج هذا الزر على أن
يوقف الجهاز عن العمل عند
الضغط عليه .
إذن فجينات الكائن الحي
مبرمجة على دفع هذا الكائن
الحي نحو التضحية بنفسه,
وهناك قوة ذات عقل ودراية
صممت وبرمجت هذه الجينات بهذه
الصّورة، وهذه القوة تلهم
الكائنات كل لحظة وتراقبها و
تهديها إلى اتّباع سلوك معين,
وهذه القوة هي الله جلت
قدرته، وهذه الحقيقة يذكرها
القرآن كما يلي :" ولله يسجد
ما في السماوات وما في الأرض
من دابة والملائكة وهم لا
يستكبرون# يخافون ربهم من
فوقهم ويفعلون ما يؤمرون"
الآية 49 .سورة النحل .
" الله الذي خلق سبع سماوات و
من الأرض مثلهن يتنزل الأمر
بينهن لتعتموا أن الله على كل
شيء قدير و أن الله قد أحاط
بكل شيء علما " الآية 12 سورة
الطلاق .
الكائنات الحية لا تبدي
تعاونا نحو أقربائها من حملة
جيناتها فقط بل نحو الكائنات
الحية الأخرى أيضا كما سنرى
أمثلة مفصلة عديدة في الباب
الثالث من هذا الكتاب, فإن
الكائنات الحية لا تساعد
صغارها فقط بل تمد يد العون
نحو الكائنات الحية الأخرى،
وهذه الظاهرة شكلت مشكلة
عسيرة الحل بالنسبة إلى نظرية
التطور لأن هذه الظاهرة لا
توحي برغبة في الحفاظ على
انتقال الجينات من نسل إلى
آخر. وتحلل مجلةCientific
American التي تتبنى هذه
النظرية ظاهرة التعاون بين
الحيوانات كما يلي: هناك مثال
حي لتعاون حيوانين غير قريبين
من بعضهماالبعض جينيّا وهو
تعاون ذكري حيوان البابون،
فإذا حدث تنافس أو صراع بين
ذكرين من هذا الحيوان يطلب
أحدهما مساعدة من ثالث, ويبدأ
الذي طلب المساعدة بهز رأسه
إلى الأمام والخلف أي بين
الذي جاء لنجدته وبين خصمه،
ويفسر البعض هذا السلوك بأن
الذي طلب المساعدة يعد الذي
قدم لنجدته بالمساعدة مستقبلا
إذا حدث و أن تعرض لأي مكروه.
إلا أن نظرية التطور تعجز عن
تفسير كيفية منع الخديعة في
الصراع بين الذكور وتعجز أيضا
عن تفسير طلب الذكر للمساعدة
مرة أخرى و الداّفع الذي
يجعله يسلك مثل هذا السلوك,
والحقيقة الحقيقة التي لا لبس
فيها تتمثل في أن الله سبحانه
وتعالى يلهم المخلوقات
ويدفعهاإلى أن تضحي بنفسها
وهي تسلك هذا السلوك.
و سنذكر في الصفحات القادمة
أمثلة على التضحية والرأفة
والشفقة التي تبديها الكائنات
الحية المختلفة، ويجب أن لا
ينسى القارئ أن الّذي ألهم
هذه الكائنات الحية هذه
التضحية والرأفة والشفقة هو
الله الذي خلقها فتبارك الله
أحسن الخالقين .
تضحية الكائنات الحية داخل
العائلة الواحدة
إنّ قسما من الكائنات الحية
يقضي حياته أو جزءا كبيرا من
حياته مع باقي أفراد ما يسمى
"بالعائلة", فنجد على سبيل
المثال البطريق والبجع, إذ
يعيش هذان الحيوانان مع
زوجيهما طيلة فترة حياتهما،
أمّا إناث الأسود والفيلة
فتعيش مع أمهاتها أو أمهات
أمهاتها24. وعموما يتصف ذكور
اللبائن بإنشاء عائلات خاصة
بهم فتتألف هذه العائلات من
الذكور والإناث والصغار.
وإنشاء هذه العائلات يلقي
مسؤولية على عاتق البالغين
لأن الذكور في هذه الحالة
ينبغي عليها الذهاب للصيد
أكثر من ذكور الأنواع التي
تعيش وحيدة، وينبغي عليها
الدفاع ليس فقط عن نفسها بل
عن أفراد العائلة أيضا، ثم
إنّ الدّفاع عن الصغار يتطلب
تضحية كبيرة .
وعملية إنشاء عائلات والدفاع
عنها يتطلب جهدا كبيرا وتحمّل
مخاطر جسيمة و ترك الخلود إلى
الراحة. وهذه العملية تثير
تساؤلا مهمّا مفاده : لماذا
تختار الحيوانات هذا الطريق
الصعب. ؟
واختيار الحيوانات لهذا
الطريق المحفوف بالمخاطر يبطل
نظرية داروين والتي تقول بأن
البقاء للأقوى، والموت
والفناء للأضعف, فنحن سنرى في
الصفحات القادمة من خلال
أمثلة عديدة كيف تصمد, بل
سنكتشف كيف أن الحيوانات
الأقوى تعمل على المحافظة على
حياة هذه الحيوانات الضعيفة و
بأنبل صورة للإيثار والتضحية
.
كيفية تعرّف أفراد العائلة
الواحدة على بعضهم البعض
ينبغي على أفراد العائلة
الواحدة أن يملكوا آلية خاصة
للتعرف على بعضهم البعض،
وبواسطة هذه الآلية الخاصة
للتعارف تستطيع الكائنات
الحية التي تعيش على شكل
مجموعات كبيرة أو مستعمرات أن
تتعرف على صغارها أو أزواجها
وحتى على آبائها أو أمّهاتها
أو أشقّاءها. ووسيلة التعرف
تختلف من حيوان لآخر، فالطيور
التي تبني أعشاشها على الأرض
مثلا تتعرف على فراخها عن
طريق الصوت والشكل الخارجي،
ومنها طائر النورس الذي يقتات
على سمكة الرّينكا. و يعيش
هذا الطائر ضمن مجموعات كبيرة
العدد ويستطيع أن يميز صوت
فراخه وسط الزّحام الهائل دون
أن يختلط عليه الأمر بين باقي
الأصوات حتى وإن كانت الفراخ
بعيدة عن بصره. وعند دخول
طائر صغير آخر إلى المكان
الذي توجد فيه الفراخ سرعان
ما يطرد من تلك المنطقة .(25)
أما اللبائن فتستطيع التعرف
على صغارها عن طريق الرائحة،
وتقوم الأمّ بشم ولدها لحظة
ولادته وفيما بعد تصبح هذه
الرائحة وسيلة للتعرف على
الصّغار (26).
و يعتبر البطريق من أنجح
الحيوانات في استخدام وسيلة
التعرف, ويبدو لنا الأمر شبه
مستحيل عند التّعرف على طير
وسط طيور متشابهة تماما.
والمحير أن البطريق يستطيع
بسهولة التعرف على أفراد
عائلته دون خلط وخصوصا
الأنثى, فهي تغيب مدة 2-3
أشهر لجلب الغذاء وعند عودتها
لا تجد أية صعوبة في التّعرف
على ذكرها وصغيرها من بين
مئات البطاريق.
والأغرب من ذلك قيام طيور
البطريق بجمع صغارها في محلّ
واحد شبيه بروضة من رياض
الأطفال ثم تذهب إلى البحر، و
هذه الطيور الصغيرة تتراص
جنبا إلى جنب, و هذه العملية
مهمة للحفاظ على الصغار من
شدة البرد. والمسألة المهمة
هنا هي كيفية تعرف طيور
البطريق البالغة على صغارها
عند الرجوع من الصيد من بين
مئات الصّغار؟
غير أن طائر البطريق لا يصعب
عليه حل هذه المشكلة لأن
البطريق البالغ يبدأ في إصدار
أصوات مرتفعة ويستطيع الصغير
أن يتعرف على أمّه وأبيه
فيسرع باتجاههما(27).
ولاشك أن وسيلة الصّوت هذه
أنجع وسيلة لتعرف أفراد
مستعمرة البطريق على بعضهم
البعض من بين الآلاف من
البطاريق. ولكن كيف أمكن لهذه
الطيور المتشابهة فيما بينها
إلى حد التطابق أن تمتلك
أصواتا مختلفة بعضها عن بعض؟
وكيف اكتسبت هذه الطيور
قابلية التمييز بين الأصوات
المختلفة؟ من المستحيل أن
تكون طيور البطريق قد اكتسبت
هذه القابلية بمحض إرادتها،
إذن من الذي وهبها هذه الميزة
الفريدة ؟
ما هو العنصر من عناصر
الطبيعة الذي تولى هذه
المهمة؟ هل هو الجليد في
المنطقة القطبية ؟ أم الصخور
؟ الجواب قطعا ليست هذه
العناصر أو أحدها لأنّ هذه
العناصر التي يتحدث عنها دعاة
التطور بدورها مخلوقة، إذن
فالجواب الواضح الذي لا لبس
فيه هو أن الله هو الذي وهبها
ميزة الصوت المختلف وجعل هذه
الطيور ذات قدرة على تمييز
الأصوات المختلفة وهو الذي
يسر لها معيشتها بهذه الصورة
المعجزة وهو البارئ المصور.
الأعشاش المبنية للصغار
والمجهزة بجميع وسائل الرّاحة
هناك دور كبير للمنازل
والأعشاش التي تبنيها
الحيوانات في رعاية وتنشئة
الصغار، وهناك أساليب مختلفة
باختلاف أنواع الحيوانات في
طريقة إنشاء هذه الأعشاش
بتفاصيل تقنية باهرة، وفي
أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات
مثل مهندس معماري بارع، وتعمل
على شاكلة بنّاء ماهر في
عمله، وتجد حلاّ لكل مشكلة قد
تواجهها أثناء البناء تماما
مثل المهندس ومثل أخصائي في
الديكور حيث تقوم بتوفير ما
يلزم لداخل العش، وفي أحيان
كثيرة أخرى تعمل هذه
الحيوانات ليل نهار للإعداد
لهذه الأعشاش، وإذا كان لهذه
الحيوانات أزواجا فتقوم
بتوزيع الادوار و التعاون في
صورة مثيرة للإعجاب. ومن أكثر
الأعشاش والمنازل التي يعتنى
بها عناية خاصة من قبل
البالغين هي التي تنشأ
لاستقبال الصغار الجدد .
والتقنية التي تستخدمها هذه
الكائنات غير العاقلة تثير
الإعجاب و الدهشة في آن واحد،
ويتضح ذلك من خلال الأمثلة
التي سنوردها في الصفحات
القادمة , و سيتضح كذلك أن
هذه الأعشاش والمنازل لا يمكن
أن تنشأ اعتمادا على الذكاء
المتواضع لهذه الحيوانات، و
من الجدير بالذكر أن هذه
الحيوانات، تخطط وتخطو مراحل
متعددة قبل الشروع في بناء
أعشاشها أو منازلها لوضع
بيضها أو ولادة صغارها، كذلك
تختار هذه الحيوانات المكان
الأمثل والأكثر أمنا
لإنشائها, فهذه الحيوانات لا
تنشئ منازلها عبثا و أينما
اتفق. وطريقة بناء العش أو
المسكن يتم اختياره من قبل
الحيوان أو الطير وفقا للمواد
الأولية المتوفرة وظروف
البيئة الخارجية، فمثلا
تستخدم الطيور البحرية
الأعشاب البحرية التي تطفوا
على سطح الماء وتقاوم الأمواج
في بناء أعشاشها، أمّا الطيور
التي تعيش في مناطق الأعشاب
الطويلة فتنشئ أعشاشا عميقة و
واسعة لتفادي السقوط عند هبوب
الرياح، والطيور الصّحراوية
تبني أعشاشها على قمم
النباتات التي تمتاز بانخفاض
درجة حرارتها أقل بعشر درجات
عن درجة المحيط، وإلاّ فإنّ
درجة حرارة اليابسة تربو على
45ْ وهي تؤدي حتما إلى موت
الأجنة الموجودة داخل البيض .
و يتطلب اختيار المكان
المناسب لبناء العش ذكاء
ومعرفة واسعة، إلاّ أن هذه
المخلوقات لا تستطيع أن تتوقع
مدى الضرر الذي سيلحق
بمنازلها بتأثير الأمواج
العاتية أو درجة الحرارة
العالية للبيئة الصحراوية.
والظاهر للعيان أن هناك
مخلوقات غير عاقلة ولا منطق
لها إلا أنها تسلك سلوكا
عاقلا و منطقيا، وبمعنى آخر
مخلوقة على هذه الصورة
الكاملة، والكمال في الخلق لا
يوجد إلا لله وحده .
ويحظى الصّغار بعد فقس البيض
أو لحظة الولادة بعناية
بالغة، ويقضي الكبار من
الحيوانات أو الطيور وقتا
كبيرا في الحفاظ على حياة
الأبناء ولا تكتفي في ذلك
ببناء المنازل وإنمّا تبني
أعشاشا وهمية لمجرد التمويه
بهدف لفت الانتباه إلى هذه
الأعشاش الوهمية حفاظا على
حياة الصغار من خطر الأعداء.
و لا شك أن هذا النمط السلوكي
ليس من بناة أفكار الحيوان و
لانابعا من ذكائه. وهناك
أسلوب آخر للتمويه تستخدمه
الحيوانات وهو بناء الأعشاش
بين أغصان الأشجار الكثيفة
الأوراق أو فوق النباتات
الشوكية، وبعض أنواع
الحيوانات تنشئ لها أوكارا
خاصة تبيض فيها وترقد على
بيضها وتقوم بإنشاء جدار خاص
لمدخل هذا الوكر باستخدام
الطين الموجود في البيئة
الخارجية وإذا لم يوجد تقوم
بإفراز سائل خاص تخلطه مع
كمية من التراب لإعداد الطين
اللازم لإنشاء هذا الجدار
الواقي.
وأغلب أنواع الطيور تبني
أعشاشها غريبة الشكل باستخدام
ألياف النباتات أو الأعشاب
والحشائش البرية المتوفرة في
البيئة، والجدير بالذكر أن
الطير الّذي سيبيض لأول مرة
في حياته يبني عشه بإتقان
بالغ دون أن يكون له سابق
معرفة أو خبرة ببناء الأعشاش
.
بلا شك أن هذه القابليات
الفذة للكائنات الحية لم تشكل
من تلقاء ذاتها، إذن ما هي
القدرة التي علّمت هذه الطيور
والكائنات الحية بناء منازلها
بهذه الكيفية المدهشة ؟ كيف
تكتسب الكائنات الحية هذه
القابلية مرة واحدة ؟ .
و هناك أمر آخر يحسن الإطلاع
عليه و يتعلق بقابليات
الكائنات الحية وهو كون
الكائن الحي على علم تام
بكيفية بناء العش أو المسكن
بالكيفية الخاصة بنوعه
والمتميز بها عن الأنواع
الأخرى اعتبارا من أول لحظة
له في هذه الحياة، وكل نوع من
أنواع الحيوانات يبني منزله
بالكيفية نفسها في أية منطقة
من مناطق العالم, وهذا دليل
واضح على أن هناك قوة واحدة
تمنح هذه المخلوقات القابلية
والمعرفة الخاصة بالحياة. بلا
شك إنّ صاحب هذه القوة التي
لا حد لها والعلم الّذي وسع
كل شئ هو الله سبحانه وتعالى
الّذي يلهم مخلوقاته ويمنحها
هذه القابليات الفذة. واللافت
للنظر عند دراسة كيفية بناء
الحيوانات لمنازلها ليس فقط
التخطيط البارع وإنما التضحية
والتعاون اللّذين يبديهما كل
من الذكر والأنثى في البناء،
وعلى سبيل المثال تنشئ الطيور
أعشاشها الخاصة بها بكل
اعتناء واهتمام ولا تكتفي
بذلك بل تنشئ أعشاشا أخرى
كجهد إضافي للتمويه (28).
ولو تمعّنا في عملية إنشاء
الطيور لأعشاشها لأدركنا مدى
الصعوبات التي تلاقيها والجهد
الظخم الذي تبذله والتفاني
الذي تبديه في سبيل إتمام
بناء هذه الأعشاش. فالطير
الواحد يقوم بعدة مئات من
رحلات الطيران في سبيل إنشاء
عش للتمويه فقط فما بالك
بالجهد اللازم لبناء العش
الحقيقي، والطير لا يستطيع أن
يحمل في منقاره سوى قطعة أو
قطعتين من المواد اللازمة
لبناء العش من أغصان أو
غيرها، ولكن هذا الأمر لا
يثير في الطير الشعور بالملل
و إنما بالعكس من ذلك يثابر
على العمل بكل صبر ،وإذا شعر
بتعب أو إرهاق لا يترك العمل
ولا يترك ما في منقاره ولا
يهمل أي تفصيل من التفاصيل
اللازمة لبناء العش. وحسب
ادعاء داروين, في قانون
الانتخاب الطبيعي لا تفكر
الكائنات الحية إلا في نفسها
و بمنتهى الأنانية. ولو كان
الوسط الذي تعيش فيه مسرحا
للحرب كما يدعي هو ومؤيدوه
لما قامت هذه الكائنات الحية
ببذل هذا الجهد الظخم والمثير
للإعجاب في سبيل الحفاظ على
الكائنات الصغيرة الضعيفة؟
هذه الأسئلة و غيرها يحتار
القانون الطبيعي لداروين في
الإجابة عليها وتعجز أمامها
نظرية التطور وادعاءات
الملحدين. والجواب الوحيد على
كل هذه الأسئلة هو أنّ الله
وحده منح هذه المخلوقات صفات
التضحية والصبر والثبات
والمثابرة والعزم فيلهمها هذه
الصفات ليحمي القوي منها
الضعيف وليستمر التوازن في
الطبيعة وليستمر نسل الكائنات
ولتكون هذه البنوراما
الطبيعية دليلا حيا وملموسا
على قدرة الله عز وجل أمام
جحود بني آدم.
في الصفحات القادمة سترد
أمثلة على قابلية الكائنات
الحية على التخطيط المعماري و
ألقيام بالديكور خصوصا الطيور
التي يحتاج صغارها وبيضها إلى
عناية فائقة في أعشاشها، لذا
يلهمها الله سبحانه وتعالى كل
ما تحتاجه ويتلاءم مع عملية
بناء الأعشاش.
كيف تبني الطيور أعشاشها
الفخمة؟
تعرف الطيور على أنها من أبرع
الكائنات الحية في بناء
أعشاشها، ولكل نوع من أنواع
الطيور طريقة في بناء عشه ولا
يخطئ أبدا في بناء العش حسب
الطريقة التي اعتاد عليها. و
أهم سبب لإنشاء الطيور
أعشاشها كون بيضها وفراخها
التي تخرج من البيض بعد فقسها
على درجة كبيرة من الضعف،
وخصوصا عندما تذهب الأم
للصيد, فالصغار يبقون بدون
أية وسيلة للدفاع عن النفس،
ولكن المكان الذي يتم اختياره
لبناء العش يعتبر الوسيلة
للدفاع مثل قمم الأشجار
والثقوب الموجودة في جذوعها
أو سفوح الجبال والتلال وكذلك
بين الأعشاب إذ يتم إخفاء
العش بمنتهى البراعة والإتقان
حفاظا على حياة الصغار .
والدور الثاني والمهم للعش هو
الحفاظ على الصغار من تأثير
البرد القارس لأن الصغار
يخرجون من البيض بدون ريش
إضافة إلى عدم قدرتهم على
الحركة بحرية و بالتالي عدم
استطاعتهم تحريك عضلاتهم
بسهولة، لذا تكون الطيور
مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى
عن البرد حفاظا على الصغار.
وأبسط مثال على هذه الأعشاش "
العش المحاك "فهو يوفر الدفء
اللازم للصغار, وبناء هذه
الأعشاش صعب للغاية ويتطلب
دقة متناهية, فالأنثى تقوم
ببناء هذا النوع من العش في
فترة طويلة وبجهد بالغ وتقوم
بفرش داخل العش بالريش والشعر
والألياف لعزلها عن التأثيرات
الحرارية للبيئة الخارجية
(29). وتوفير المواد الأولية
لبناء أي نوع من أنواع
الأعشاش يعتبر خطوة مهمة جدا،
وتقوم الطيور طيلة اليوم بجمع
هذه المواد الأولية فمناقير
الطيور ومخالبها مخلوقة
لتلائم هذه المهمة. وعملية
بناء العش مهمة الأنثى أما
مهمة الذكر فتتمثل في اختيار
المكان الملائم. وتستفيد
الطيور في بناء أعشاشها من
مواد أولية مثل الطين و الورق
النباتي اللبلاب وحتى الشعر
أو الورق، وخصائص أي عش تعتمد
على المواد الأولية المستعملة
وعلى الطريقة التي يستخدمها
ذلك الطير في بناء عشه. وتبنى
الأعشاش اعتمادا على مرونة
المواد الأولية ومتانتها
وصلابتها، فالطيور تختار
المواد التي يمكن طيها أو
مدها عند بناء العش. والتنوع
في هذه المواد يجعل العش أكثر
أمنا للفراخ, فخلط الطين
والألياف يحول دون حدوث أي
فطر في جدران العش.
والطيور بعد أن تجمع المواد
الأولية تبدأ بتكوين الخليط
اللازم لبناء العش، والطير
الذي يتبع هذه الوسيلة في
البناء هو الخطاف أو النون
الذي يبني عشه على حافة
الهاوية أو على جدران المباني
والباحات الخارجية فيقوم بلصق
عشه بجدرانها بنوع من الخيلط
اللاصق، وهذه الخليط يحصل
عليه بطريقة عملية جدا, فأولا
يقوم بجمع الطين والرماد في
منقاره ويحملهما إلى المكان
الذي أزمع بناء العش فيه ومن
ثم يجعل الطين مزيجا لزجا بعد
إفراز مواد خاصة ويمسح سطح
الهاوية بهذه المادة اللزجة
حتى يعطي العش الشكل النهائي
على شكل أصيص مدور مجوف و
يملأ داخل الأصيص بالحشيش
والطحلب والريش وغالبا ما
يبني عشه تحت نتوء صخري كي
تحميه الصخرة من تأثير
الأمطار المتساقطة التي ربما
تزيل تماسك الطين المتين الذي
يؤدي إلى هدم العش برمته
(30).
وبعض الطيور التي تعيش في
جنوب إفريقيا وتدعى
بـأنثوسكويوس تبني عشها من
قسمين, القسم الأول منه لحضن
البيض, وهناك مدخلان للعش
أحدهما سري والآخر للتمويه ضد
خطر الأعداء (31). من جانب
آخر يقوم أحد الطيور في
أمريكا من جنس sar?asmag?ller
ببناء عشه بالقرب من خلية
النحل البري لأن هذا النحل
يحول دون اقتراب الأعداء
المشتركين كالأفاعي والببغاء
والقرود وخصوصا أحد أنواع
البعوض الذي يشكل خطرا
بالنسبة إلى هذه الطيور (32).
وبذلك تنجح الأم في الحفاظ
على حياة صغارها من خطر
الأعداء .
الأعشاش التي تخيطها الطيور
الخياطة
يتميز منقار طير الخياط
الهندي بدقة شكله كإبرة
الخياطة، والمواد الأولية
التي يستخدمها في خياطة عشه
تتمثل في خيط نسيج العنكبوت
والزغب الذي يحيط ببعض أنواع
البذور إضافة إلى ألياف خاصة
بقشور الأشجار. ويقوم هذا
الطير بجمع أوراق الأشجار
الواحدة فوق الأخرى متراصة
وبعد ذلك يقوم بثقب حواف هذه
الأوراق الواحدة تلو الواحدة
بمنقاره المدبّب ومن ثم يدخل
نسيج العنكبوت أو اللّيف الذي
جمعه في هذه الثقوب ويعقدها
كي يمنع سقوط الأوراق، ويكرر
العملية نفسها في الجهة
المقابلة حتى يجعل الورقتين
النباتيتين متلاصقتين تماما
وفي خطوة لاحقة يقوم بتدوير
هاتين الورقتين المتلاصقتين
حول بعضما البعض مثلما يصنع
العقد، ويفرش داخل هذا العش
الورقي بالحشيش (33), وأخيرا
يخيط هذا الطير جزءا إضافيا
داخل العش يخصصه لأنثاه لتضع
فيه بيضها بأمان (34).
الطيور النسّاجة
تعتبر أعشاش الطيور النسّاجة
من أغرب أنواع الأعشاش في
عالم الحيوان, وهذه حقيقة
يؤكدها علماء الأحياء, فهذه
الطّيور تقوم بجمع الألياف
النّباتية أو سيقان النباتات
الرفيعة لتستخدمها في نسيج
أعشاشها و تتميز هذه الأعشاش
بمتانة جدرانها المنسوجة من
هذه المواد الأولية.
وأول عمل يقوم به الطائر
النسّاج هو جمع المواد
الأولية اللازمة، وتتألف من
أجزاء رفيعة يقطعها من
الأوراق النباتية الطّرية أو
عروقها الرئيسية، و سبب
اختياره للأوراق الطرية بدلا
من اليابسة يرجع إلى سهولة
تشكيلها لطراوتها ومرونتها.
ويقوم الطير بعد ذلك بلف
الجزء الرفيع الذي أخذه حول
غصن شجرة متعدد الفروع
مستخدما أحد ساقيه لتثبيت أحد
طرفي اللّيف على الغصن
ومنقاره للقيام بعملية اللّف،
وللحيلولة دون سقوط هذه
الحبال الليفية يقوم الطير
بربطها ببعضها البعض من تكوين
عقد محكمة، و في المرحلة
الأولى يقوم الطير بإنشاء
حلقة ليفية وتعتبر مدخلا إلى
العش, ثم يقوم لاحقا بتمرير
الأجزاء الورقية الرفيعة من
بين هذه الحبال الليفية
بواسطة منقاره وبطريقة
متناوبة مرة من فوق ومرة من
تحت ويقوم بين الحين والآخر
بشدّ هذه الأجزاء التي وقع
تمريرها لجعل النّسيج أكثر
متانة. وبأسلوب بارع يقوم
الطير بتكوين منحنيات أو
نتوءات في جدران العش لجعله
متماسكا و متوازنا.
وعندما ينتهي الطير من إنشاء
المدخل اللازم لعشه يبدأ بنسج
الجدران و في هذه الحالة يقف
مقلوبا أو رأسا على عقب
ويواصل بالعمل من داخل العش،
ويسحب الليف الورقي بمنقاره
تحت الحبال الليفية ويمسك
طرفه الخارجي بدقة ومن ثم
يشده شدّا محكما، وبهذه
الطريقة يجعل للعش نسيجا غاية
في الإتقان (36). ومما يلاحظ
هنا أن الطير النساّج يعمل
وكأنه يخطط لعدة مراحل وخطوات
قادمة، فيبدأ بجمع المواد
اللازمة ومن ثم يبدأ بنسج
العش في مكان ملائم فينسج
المدخل ويستمر في نسج الجدران
فيما بعد وينحني في النسج
عندما يتطلب الأمر الانحناء
ويوسّعه عندما يتطلب الأمر
التوسيع إضافة إلى إتقانه
لعمله إلى درجة مذهلة و دون
أن يعطي أيّ انطباع بكونه
مبتدأ في عمل النّسج.
والحقيقة أنه يثبت مهارة
فائقة في أداء عمل شخصين في
آن واحد بواسطة ساقه للتّثبيت
ومنقاره للنّسج ولا يتقدم
خطوة إلاّ بحساب و تقدير
بارعين.
و هناك نوع آخر من الطيور
النسّاجة يقوم بإنشاء أعشاش
ذات سقف متماسك يمنع تدفق
قطرات المطر داخله ويفرز هذا
الطير سائلا في فمه يختلط مع
الألياف النباتية التي يجمعها
ويحضر بذلك خليطا يساعده على
طلاء عشه من الداخل و يتميز
هذا الخليط بإكساب العش مرونة
ومقاومة ضد نضوح مياه المطر.
و تتكرر هذه الخطوات عدة مرات
حتى اكتمال بناء العش، ومن
الاستحالة القول أن هذه
القابلية لدى الطيور محض
مصادفة أو مكتسبة لاشعوريا
لأن هذه الطيور وهي تعد
أعشاشها تتصرف مثل مهندس
معماري ومهندس إنشاءات وعامل
بناء ماهر في آن واحد.
و مثال آخر للطيور النساجة
التي تنشأ أعشاشا غريبة هو
أحد أنواعها و يعيش في جنوب
إفريقيا، فهذا النوع ينشأ
عشّا شبيها بعمارة مقسمة إلى
شقق ويبلغ ارتفاع هذا النوع
من الأعشاش 3 أمتار وعرضها
4,5 مترا ويعيش داخل هذا العش
ما يقرب من 200 زوج من هذا
النوع (37). والسؤال الذي
يتبادر إلى أذهاننا لماذا
تختار هذه الطيور بناء
أعشاشها بهذه الصعوبة بدلا من
الأعشاش السهلة البناء؟ وهل
يمكن تفسير بناء هذه الأعشاش
المعقدة من قبل هذه الطيور
بـمحض مصادفة ؟ بالطبع لا لأن
هذه الطّيور مثلها مثل باقي
الكائنات الحية تتحرك بوحي
إلهام الهي .
أعشاش طائر الخطّّاف
هناك بعض الطيور تخفي أعشاشها
تحت سطح الأرض مثل طائر
الخطاف السّاحلي الذي يقوم
بحفر قنوات موازية لساحل
البحر أو ضفّة النهر وتكون
هذه القنوات بمحاذاة التلال
المتشكلة من التربة. وتحفر
هذه الطيور قنواتها بشكل منحن
من الأمام للحيلولة دون دخول
مياه المطر داخل العش، وفي
نهاية كل قناة توجد فسحة
مبطنة بالقشّ والريش يعيش
فيها الطير. أما أنواع طائر
الخطاف التي توجد في أمريكا
اللاتينية فتبني أعشاشها على
الصخور الموجودة خلف
الشّلالات المنسابة, فهذا
الموقع يكون بعيدا عن خطر
باقي الطيور كالنورس أو آكلات
السمك وحتى عن الغربان.
والماء المتساقط بأطنان كثيرة
لابد أن يكون قاتلا لأي طير
يمر من خلاله إلا أن هذا
الخطاف يتميز بصغر حجمه وسرعة
حركته من خلال ماء الشلال لذا
لا يصاب بأي أذى. وبهذا الشكل
يكون هذا الطير وفراخه وعشه
بمأمن من خطر باقي الحيوانات.
وهذا الطير لا يستطيع استخدام
مخالبه في جمع المواد الأولية
اللازمة لبناء العش لصغر هذه
المخالب, وبدلا من ذلك يلتقط
أجزاء الأعشاب اليابسة
والمتطايرة في الهواء أو
الريش المتطاير ويفرز عليها
سائلا خاصّا يحولها إلى عجينة
لاصقة يبني بواسطتها عشه على
الصخور (38).
أمّا الخطاف الذي يعيش في
سواحل المحيط الهندي فيبني
أعشاشه داخل الكهوف، وتسد
الأمواج العاتية مدخل هذه
الكهوف، وعندما تريد هذه
الطيور الدخول إلى أعشاشها
ترقد على هذه الأمواج منتظرة
اللحظة التي ينحسر فيها الموج
عن مدخل ذلك الكهف وعندئذ
تنتهز هذه الطيور الفرصة
المناسبة للولوج داخل الكهف
والوصول إلى العش. وقبل أن
تشرع هذه الطيور في بناء
الأعشاش تقوم بتثبيت أعلى
ارتفاع يمكن أن تصل إليه مياه
الأمواج داخل الكهف وبعد ذلك
تبدأ في بناء العش بمستوى
أعلى من مستوى المياه الآتية
بواسطة الموج (39).
وهناك طائر يعيش في إفريقيا
يدعى بـ"السّكرتير" يبني عشه
في قمم الأشجار الشوكية
العالية ليكون بعيدا عن خطر
الأعداء، أمّا طائر نقار
الخشب الذي يعيش في جنوب غرب
أمريكا فينشأ أعشاشه داخل
ثقوب يفتحها داخل جذوع نبات
الصبار الشوكي العملاقة. أما
طيور المستنقعات فتبني عدة
أعشاش وهمية إلى جانب العش
الحقيقي فيقوم الذكر بإنشاء
هذه الأعشاش الوهمية وينتقل
من أحدها إلى الآخر ليلفت
الانتباه إلى تلك الأعشاش
بدلا من العش الذي تتولى
الأنثى مهمة بنائه (40).
أعشاش طائر الباتروس
إنّ ارتباط أنثى الطير
بفراخها ظاهرة موجودة في جميع
أنواع الطيور ومن هذه الطيور
الباتروس التي تتكاثر في مسقط
رأسها في موسم التلقيح حين
تتجمع وتشكل مستعمرة كبيرة
ويقوم الذكور بإصلاح الأعشاش
البالية قبل أسابيع من قدوم
الإناث، وهكذا يتمّ الإعداد
لمسكن الإناث والفراخ. أما
الاهتمام بالبيض فيمكن
مشاهدته عند مراقبة سلوك طائر
الباتروس أيضا لأن هذا الطير
يستمر واقفا على البيض طيلة
50 يوما دون حراك ، وهذه
االعناية الفائقة لا تقتصر
على البيض فقط وإنما تشمل
الفراخ الخارجة من هذه البيض
فيقوم هذا الطائر بقطع مسافة
1,5 كم في كل مرة يخرج فيها
لجلب الطعام (41).
أعشاش الطّيور ذات القرون
يعتبر موسم التكاثر موسم عمل
ضخم بالنسبة إلى هذه الطيور
لأنها تبدي فيه نشاطا يثير
الإعجاب سواء ذكرا كان أم
أنثى, وأوّل خطوة يجب اتباعها
بالنسبة إليهما هي بناء عش
مأمون للأنثى والفرخ الصغير
القادم.
ويشرع الذكر في العمل فيبحث
عن ثقب مناسب في الشجرة ومن
ثم تدخل الأنثى هذا الثقب
وبعدها يقوم الذكر بسد مدخل
الثقب بالطين. بيد أنّ هناك
جانبا مهمّا في بناء هذا العش
إذ أنّ الذكر وهو يسد المدخل
بالطين حماية للأنثى وصغيرها
من خطر الأفاعي وغيرها يترك
فجوة صغيرة في هذا الثقب وعن
طريق هذه الفجوة يمدّ الذكر
الأنثى بالطعام لأنها تظل
راقدة على البيض لمدة ثلاثة
أشهر متواصلة لا تخرج فيها من
العش ولو مرّة واحدة، وحتى
الصّغار عندما يخرجون من
البيض يتم تزويدهم بالطعام
عبر هذه الفجوة (4).
ويتصرف الذكر والأنثى تجاه
صغارهما بكل صبر ومثابرة
وتفان, فالأنثى ترقد على
البيض لمدة ثلاثة أشهر
متواصلة في داخل العش الذي
يكاد يكفيها هي فقط سعة أما
الذكر فلا يغفل عنها ولا عن
البيض بل يستمر في الرعاية
والاهتمام حتى النهاية.
ونفهم من خلال هذه الأمثلة أن
لكل نوع من أنواع الطيور
أسلوبه الخاص في إنشاء
الأعشاش، وكل أسلوب من هذه
الأساليب يعتبر معقدا إلى حد
كبير ولكن يتبع وينفذ من قبل
حيوان غير عاقل و لا يملك
منطقا معينا، في حين أنّ هذه
الأساليب تتطلب تخطيطا
وتصميما كبيرين. ودعونا نفكر
في هذه الأمثلة التي تتمثل في
كائنات حية غير عاقلة ولكن
سلوكها كله عبارة عن شفقة و
رأفة و تضحية وتفاني وفق
تخطيط بارع. ما مصدر هذه
الأنماط السلوكية ؟ وإذا كانت
هذه الكائنات الحية لا تملك
إرادتها الفاعلة لاتباع هذه
الأنماط السلوكية فإذن هناك
قوة موجّهة لها فيما تفعله،
ومصدر هذه القوة هو الله رب
السماوات والأرض وما بينهما .
الأعشاش التي تبنيها الكائنات
الحية المختلفة
نحل "البامبوس" :يتميز هذا
النوع من النحل بتضحية وتفان
فريدين عند بنائه لخليته،
فالملكة الشابة تبدأ في البحث
عن أنسب مكان لإنشاء الخلية
قبل أن تبدأ بوضع بيضها بفترة
قصيرة، وبعد أن تجد المكان
المناسب، تكون المرحلة
اللاّحقة هي إيجاد المواد
اللازمة لبناء الخلية من ريش
أو عشب أو ورقة نباتية.
في البداية تبني الملكة مكانا
خاصا بحجم كرة المنضدة في وسط
الخلية وتبنيه بواسطة المواد
الأولية التي تجمعها من
المحيط الذي توجد فيه، أما
المرحلة الآتية فتتمثل في
عملية جمع الغذاء للخلية.
فعندما تخرج الملكة تبدأ
بالتحليق راسمة دوائر وهمية
في الهواء واتجاهها أثناء
التحليق يكون نحو الخلية دوما
وبهذه الطريقة تتذكر موقع
خليتها ولا تنساه، وتقوم بجمع
رحيق الأزهار أو لب العسل
وعندما ترى الكمية كافية تعود
لتفرغ ما في بطنها في المكان
المخصص في الخلية. أما الجزء
الّذي لا يمكن التّغذّي منه
فلا تلفظه خارج الخلية بل
تستخدمه في صناعة سائل لاصق
يفيد في لصق المواد البنائية
للخلية إضافة إلى دوره كعازل
حراري. وبعد تغذيها من هذا
العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع
إضافة إلى استخدامها رحيق
الأزهار الذي جمعته في عمل
غرف صغيرة كروية الشكل لتضع
فيها من 8-18 بيضة والتي
ستفقس عن أول نحلات عاملة في
الخلية وتقوم الملكة بسدّ هذه
الغرف وما حولها برحيق
الأزهار سدا محكما.
ويتم وضع البيض في هذه الغرف
بترتيب محكم لا فوضى فيه.
والمهمة الرئيسية الأخرى هي
تغذية هذه العاملات, لذا تقوم
الملكة الشابة بإنشاء أوعية
خاصة من الشّمع تضع فيها
خلاصة العسل, وبعد فترة تكوين
تتراوح ما بين أربعة و خمسة
أيام تجد العاملات الخارجات
من البيض غذاء جاهزا لها
قوامه لبّ العسل ورحيق
الأزهار .
ولو أمعنا النظر في هذه
العملية بكافة تفاصيلها
لوجدنا أمامنا حيوانا غير
عاقل وعديم المنطق ولكنه
يستطيع استخدام خلاصة العسل
كأفضل عامل بناء بالإضافة إلى
تفانيه لإنشاء خلية مليئة
بالأفراد الصحيحين النشيطين.
أمّا طول هذه الحشرة فلا
يتجاوز بضعة سنتمترات. و أول
ما يتبادر إلى أذهاننا من
سؤال هو لماذا كلّ هذا
الإيثار والتضحية من قبل
الملكة ؟ فالملكة بعد خروج
العاملات من البيض لا تكسب
شيئا ذا بال، بالإضافة إلى
وجود احتمال تركها لخليتها
التي أنشأتها عند قدوم ملكة
أخرى تزاحمها فيها. بلا شك
هناك سبب لتفانيها هذا
وتحملها كل هذا الجهد الدّؤوب
وهو الإلهام الإلهي الذي يوجه
باقي الكائنات الحية أيضا.
إذن فلا مكان في عالم الأحياء
لمفهوم الأنانية التي يقول
بها دعاة التطور (43).
الملاجئ الثّلجيّة للدّب
القطبي
تنشئ أنثى الدّب القطبي ملجأ
ثلجيا عندما تكون حاملا أو
بعد وضعها لوليدها, وهذا
الملجأ تحت ركام الجليد، و
عدا هذا فإنها لا تعيش في
ملاجئ أو مساكن معينة. وعموما
تضع الأنثى وليدها في منتصف
الشتاء, و يكون الوليد
الصّغير لحظة ولادته أعمى و
لا شعر له إضافة إلى صغر
حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى
ملجئ لرعاية هذا المولود
الصّغير الضعيف. والملجأ
التقليدي يتم إنشاؤه على شكل
مترين طولا ونصف قطره تقريبا
أي نصف متر عرضا لأن الملجأ
يكون على شكل كرة ارتفاعها
نصف متر أيضا. ولكن هذا
المسكن أو الملجأ لم ينشأ
هكذا دون أيّ اهتمام أو تخطيط
بل حفر تحت الجليد بكل عناية
واهتمام وسط بيئة مغطاة
بالجليد, وتم توفير كل وسائل
الراحة والرعاية للوليد
الصغير في هذا الملجأ. وعموما
فإنّ لهذه الملاجئ أكثر من
غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى
أعلى قليلا من مدخل الملجأ كي
لايسمح للدفء بالتّسرب إلى
الخارج.
وطيلة فصل الشتاء تتراكم
الثلوج على الملجأ ومدخله
وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة
للتهويه والتنفس، ويكون سقف
الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75
سم و مترين. و يقوم هذا السقف
بدور العازل الحراري فيحافظ
على الدفء الموجود داخل
الملجإ ولهذا تبقى درجة
الحرارة ثابتة داخله (45).
وقام أحد الباحثين في جامعة
أسلو النرويجية ويدعى Paul
Watts بتثبيت محرار في سقف
أحد ملاجئ الدّببة لقياس درجة
الحرارة وتوصّل إلى نتيجة
مذهلة, فدرجة الحرارة خارج
الملجأ كانت حوالي 30 تحت
الصفر أما داخل الملجأ فلم
تنزل الحرارة تحت 2-3 أبدا.
والظاهرة الملفتة للانتباه هي
كيفية قياس أنثى الدب لسمك
السّقف الثلجي كي يتواءم مع
درجة عزله الحراري لداخل
الملجأ إضافة إلى كون الوسط
داخل الملجأ بهذه الحرارة
ملائما للأنثى من ناحية تنظيم
استهلاك مخزونها الدّهني في
جسمها أثناء سباتها الشتوي,
والأمر الآخر المحير هو خفض
أنثى الدب القطبي لجميع
فعالياتها الحيوية إلى درجة
كبيرة أثناء سباتها الشتوي كي
لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد
على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة
أشهر تحوّل الدّهن الموجود في
جسمها إلى بروتين لازم لتغذية
صغارها, أما هي فلا تتغذى
أبدا وتنخفض دقات قلبها من 70
ضربة في الدقيقة إلى ثمان
ضربات في الدقيقة وبالتالي
تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا
تقوم بقضاء حاجاتها أيضا
وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها
اللازمة لتنشئة الصغار الذين
سيلدون في تلك الفترة.
مساكن التّماسيح
تعدّ أنثى التمساح الذي يعيش
في منطقة "أفيركليدس" في
فلوريدا مكانا مختلفا جدّا
لوضع البض فهي تقوم بجمع
النباتات المتعفنة وتخلطها
بالطين لتصنع منها تلة
ارتفاعها 90سم تقريبا ومن ثم
تحفر حفرة في قمة هذه التلة
لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد
ذلك بالنباتات التي تكون قد
جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة
هذه التلة من خطر الأعداء.
وعندما يبدأ البيض بالفقس
تقترب الأم عند سماع أصوات
صغارها وهم يصدرون أصواتا
متميزة و تقوم بإزالة
النباتات التي غطتها بها
ويبدأ الصغار بالتسلق إلى
أعلى, و تجمعهم الأم في تجويف
فمها المتسع وتذهب بهم إلى
الماء ليبدأوا حياتهم (46).
مسكن الضفدع "الحداد"
يعتبر هذا النوع من أبرع
البرمائيات في إنشاء مسكه وهو
يعيش في جنوب إفريقيا، و يقوم
الذكر بإنشاء هذا المسكن على
ضفة الماء فالذكر يشرع في
الدوران حول نفسه في الطين
حتى يحدث فيه ثقبا واضحا، ومن
ثم يقوم بتوسيع حوافي هذا
الثقب، وعند اكتمال هذه
الخطوة يبدأ بتكوين جدران
طينيّة متينة لهذا الثقب وفي
النهاية يكون قد أنشأ حوضا
مائيا بعمق 10سم، ويبدأ
بالجلوس داخل هذا الحوض ويصدر
أصواتا يدعو فيها الإناث
للتكاثر (التزاوج) ويظل على
هذا الوضع حتى يلفت انتباه
إحدى الإناث وعند مجيء الأنثى
تبدأ بوضع بيضها داخل الحوض
أما الذكر فوظيفته تلقيح هذا
البيض. وبعد ذلك يبدأ كلاهما
بمراقبة هذا البيض حتى فقسه،
وعند الفقس تخرج يرقات
الضفادع والتي تكون محاطة
بغلاف واقي وتبقى في هذا
الحوض بمأمن من خطر الأسماك
والحشرات وعندما تترعرع سرعان
ما تثبت فوق جدران هذا الحوض
المخصص (لرعاية الصغار) لتخرج
وتبدأ حياتها (47).
مهندسو ما تحت الماء
من المعلوم أن الأسماك ليس من
عادتها بناء منازل خاصة بها،
إلا أن هناك أنواعا منها يسلك
سلوكا محيرا, فأسماك المياه
العذبة تنشأ لها مساكن خاصة
في قيعان البحيرات أو الأنهار
أو المياه الراكدة، وغالبا ما
تكون على شكل حفر يتم حفرها
بين الأحجار أو الرمال، ومثال
على ذلك سمك " السلمون " وسمك
"البني " فهي تترك بيضها داخل
هذه الحفر حتى تفقّس لوحدها.
و هناك أنواع أخرى من الأسماك
تقوم بحراسة هذا البيض
بالتناوب بين الذكر والأنثى
عندما يكون البيض مكشوفا
والأخطار محيقة . ومعظم أنواع
الأسماك تتميز بكون الذكر هو
المسؤول عن إنشاء المساكن
الخاصة بوضع البيض وحراستها
أيضا.
وهناك أسماك تتميز بكون
مساكنها أكثر تعقيدا، ومثال
ذلك السمك الشوكي الذي يعيش
في أغلب المناطق النّهرية
والبحيرات في كلّ من أمريكا
الشمالية وأوروبا إذ يقوم
الذكر بإنشاء أعشاش أكثر
اتقانا من أعشاش الطيور، حيث
يقوم هذا النوع من السمك بجمع
أجزاء من النباتات المائية
ومن ثم يلصقها ببعضها البعض
عن طريق سائل لزج يفرز من
كليّ هذا السّمك ويقوم الذكر
بالسباحة حول هذه الخلطة
اللزجة والتمسح بها حتى
يعطيها شكلا طوليا منتظما
وبعدها يثب فجأة سابحا من
منتصف هذه العجينة شاقا إياها
لكي تصبح على شكل نفق له مخرج
ومدخل ويمر من خلاله الماء، و
إذا حدث أن مرت أنثي بالقرب
من هذا النفق العش يقوم الذكر
بمغازلتها بالسباحة حولها
جيئة وذهابا حتى يذهب بها إلى
مدخل النفق الذي يحاول أن
يدلها عليه عن طريق مقدمة
رأسه، وعندما تبيض الأنثى
داخل هذا النفق يدخل الذكر من
المقدمة دافعا الأنثى إلى
الخارج عن طريق المؤخرة.
وهكذا تعاد العملية مع عدة
أثاث وهدف الذكر من دخول
النفق وطردهم إياهن هو تلقيح
البيض. وعندما يمتلأ النفق
بالبيض يبدأ الذكر بحراستها
ويثابر على السماح بدخول
الماء العذب إلى النفق، ومن
جانب آخر يقوم بترميم الأجزاء
التالفة منه، ويستمر في حراسة
النفق حتى بعد عدة أيام من
فقس البيض. وفيما بعد يقوم
بقطع الجزء العلوي من النفق
تاركا السفلي لمعيشة الصغار
(48).
كيف تنجح الحيوانات في إنجاز
هذا العمل ؟
تصوّروا إنسانا ليست لديه أية
معرفة بالعمارة ولا عمل في
قطاع البناء أبدا وليست لديه
خبرة في تحضير المواد الأولية
للبناء ولا عن كيفية البناء
ومع هذا يقوم بإنشاء مسكن بكل
براعة وإتقان, كيف يحصل هذا؟
هل يستطيع أن يفعل ذلك لوحده
! بالتأكيد لا، فالإنسان الذي
يعتبر مخلوقا عاقلا وذا منطق
من الصعوبة أن يسلك هذا
السلوك .
إذن هل من الممكن أن تسلك هذه
الحيوانات سلوكا يتطلب ذكاء
وقابلية ؟ وكما أسلفنا القول
في الصفحات السابقة إنّ أغلب
الحيوانات لا فقط لا تملك مخا
وإنما تفتقر إلى جهاز عصبي
ولو بسيط ولكنّها مع ذلك تقوم
بحسابات دقيقة جدا عند
إنشائها لأعشاشها، وتطبق
قوانين الفيزياء وتستخدم
أساليب تتطلب مهارة خاصة
بالنسيج والخياطة، إضافة إلى
إيجادها حلولا أمام كلّ
المشاكل التي تعترض سبيلها أو
سبيل صغارها وبصورة عملية
تماما. وتعد هذه الحيوانات
لنفسها خلطة البناء بصورة
طبيعية ومتقنة فضلا عن
تركيبها وصفة خاصة لعزل عشها
عن تأثيرات البيئة السلبية.
ولكن هل يعرف الطير أو الدب
القطبي معنى العازل الحراري؟
وهل يفكر هذا الحيوان أو ذاك
بضرورة تدفئة عشه أو عرينه ؟
والواضح أن هذه الاستنتاجات
الفكرية لا يمكن أن تصدر من
هذه الحيوانات، إذن كيف
اكتسبت هذه الحيوانات مثل هذه
الخبرة والمهارات؟
و هذه الحيوانات تتّصف كذلك
بأنها مثابرة وصبورة جدا في
إنشائها لمساكنها على الرغم
من أن هذه المساكن تكون في
أغلب الأحيان محلاّ لسكن
صغارها فقط.
هناك تفسير واحد لهذه
العقلانية والمنطقية والتفاني
في سلوك هذه الحيوانات, إنه
الإلهام الإلهي. فالبارئ
المصور خلقها بهذه الصورة
الكاملة وألهمها هذا السلوك
كي تحافظ على نسلها وعلّمها
الدفاع عن النفس و الصّيد و
التّكاثر كلّ بأسلوبه الخاص
الذي يميّزه باعتباره نوعا
حيوانياّ مختلف، هو الله
الحافظ الرّحمان الذي رحمته
وسعت كل شيء وبرحمته هذه علّم
هذه الحيوانات كيفية بناء
أعشاشها وفق تخطيط بارع و
متقن، وما الكلام عن "التطور"
و من أن " الطبيعة الأم" أو
المصادفات هي التي علمت
الكائنات الحية هذه الأنماط
السلوكية سوى تخبط لا أساس له
سواء فكريا أو علميا، وما
سلوك الحيوانات هذا سوى إلا
إلهام إلهي ورحمة واسعة من
لدن الرحمن الرحيم .
ويقول الله سبحانه وتعالى في
كتابه المبين " وأوحى ربك إلى
النحل أن اتخذي من الجبال
بيوتا ومن الشجر وممّا يعرشون
" صدق الله العظيم . سورة
النحل - الآية 68 .
إنه هو الذي ألهم النحل كيفية
بناء الخلية وكذلك باقي
الكائنات الحية ألهمت من قبله
جلت قدرته كيفية بناء مساكنها
وكيفية إعداد المواد اللاّزمة
للبناء والأساليب المتّبعة
لإنجاز تلك الأعمال و كذلك
الحفاظ على النسل والتضحية في
سبيل الحفاظ على حياة الصغار.
إنّ الكثير من الكائنات الحية
تبدي تفانيا محيّرا وتتحمل
صعوبات كثيرة في سبيل التكاثر
والحفاظ على بيضها أو صغارها
المولودين حديثا، ويمكن
مشاهدة نماذج في الطبيعة تضحي
بحياتها في سبيل ذلك. فمثلا
هناك أنواع من الحيوانات تقطع
كيلومترات عديدة جدا في سبيل
وضع البيض وأخرى تبذل جهدا
شاقا ودؤوبا لإنشاء أعشاش
آمنة، وأنواع أخرى تموت
مباشرة بعد التكاثر ووضع
البيض فضلا عن أنواع تحمل
بيضها في فمها لمدة أسابيع
دون أن تتغذى أو أنواع تحرس
بيضها لمدة أسابيع أيضا دون
كلل أو ملل.
والحقيقة أن هذه الأنماط
السلوكية الفريدة تهدف إلى
تحقيق غاية واحدة هي الحفاظ
على النّسل لأن الصغار و هم
ضعاف لا يستطيعون البقاء إلاّ
برعاية الكبار البالغين
الأقوياء، فلوترك غزال مولود
حديثا وحده في العراء أو لو
ترك بيض طير دون حماية لاشك
أن حظهما في البقاء يكون
ضئيلا جدا. والملاحظ في
الطّبيعة أنّ الحيوانات
البالغة تقوم برعاية صغارها
دون ملل أو إهمال أو استنكاف
وتتحمل مسؤولية الرعاية
كاملة, كلّ ذلك استجابة
للإلهام الإلهي.
والغريب أيضا في هذه المسألة
هو كون الكائنات الحية التي
تبدي تفانيا ودأبا في رعاية
صغارها هي من أقل الكائنات
الحية تكاثرا، ومثال على ذلك
الطيور فهي تضع عددا محدودا
من البيض كلّ سنة ولكنها تهتم
بهذا العدد من البيض اهتماما
بالغا. وهذا القول جائز في
اللبائن أيضا والتي يمكن
القول عنها أنها تلد مولودا
واحدا أو مولودين ولكنها
تستمر في الرّعاية و العناية
مدة طويلة نسبيا، وهنا ك
كائنات حية لا تبدي اهتماما
ملحوظا بصغارها بالرغم من
كونها تبيض أعدادا كبيرة من
البيض تقدر بالآلاف مثل
الأسماك والحشرات أو الفئران
التي تلد أعدادا كبيرة في كل
موسم تكاثري, ولكونها بهذا
العدد الضخم ضمن العائلة
الواحدة فإن الاحتمال عال
باستمرار النّسل بالرغم من
هلاك أعداد كبيرة من الصغار
في المراحل الأولى من حياتها.
ولو كانت هذه الحيوانات تهتم
بصغارها بصورة كبيرة لكانت
أعدادها تتزايد باطراد
وبالتّالي يحدث خلل في
التّوازن البيئي, ومثال على
ذلك فئران الحشائش التي
تتكاثر بصورة كبيرة جدا ولو
حدث أن حافظت على أعدادها
المتزايدة لملأت هذه الفئران
وجه البسيطة(49). و المعلوم
أنّ التكاثر يمكن اعتباره
إحدى الوسائل الكفيلة بالحفاظ
على التوازن البيئي إلا أن
الكائنات الحية لا يمكن لها
التحكم في خاصية "التكاثر"
هذه من وحي علمها أو سلوكها
المنطقي .
والمعلوم أيضا أن هذه
الكائنات الحية مخلوقات غير
عاقلة لذا فلا يمكن أن ننتظر
منها سلوكا ضابطا للإيقاع
التكاثري حفاظا على التوازن
البيئي و لا حسابا مضبوطا
لتحقيق ضرورة التكاثر من أجل
استمرار النسل. وكل هذه
الشواهد الحية تدل على وجود
قوة تدير هذه السيمفونية
الطبيعية، وهذه القوة تملي
إرادتها على كل كائن حي على
حدة ليمارس دوره المسيّر (
وليس المخيّر ) في ممارسة
مهمّته في البيئة الطبيعية
على أكمل وجه، أي أنّ الحقيقة
تتمثل في عدم وجود أيّ كائن
حي خارج السيطرة أو تحرّكه
بشكل اعتباطي, فكل الكائنات
الحية تنقاد وتخضع لله الواحد
القهار .
ويقول الله سبحانه وتعالى في
محكم كتابه المبين عن كيفية
تكاثر الأحياء بإذنه جل جلاله
وعن كيفية تقديره لحياتها
ومماتها وهو الحي القيوم: "
الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى
وما تغيض الأرحام وما تزداد
وكل شيء عنده بمقدار " سورة
الرعد - الآية 8 ويقول أيضا:
" ومن آياته الليل والنهار
والشمس والقمر لا تسجدوا
للشمس ولا للقمر واسجدوا لله
الّذي خلقهن إن كنتم إياه
تعبدون " سورة فصلت - الآية
47, أمّا في سورة
الشورى-الآية 49-50 فيقول
تعالى : " لله ملك السموات
والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن
يشاء الذكور (49) أو يزوجهم
ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء
عقيما إنه عليم قدير (50) "
صدق الله العظيم .
العناية الفائقة التي تخص بها
الكائنات الحية بيضها وصغارها
الظاهرة المعروفة لدى الأحياء
أنهّا تبذل جهدا كبيرا في
العناية بالبيض والصغار
وتتحمل في سبيل ذلك الصّعوبات
الجمّة فهي تقوم بإخفائها عن
عيون الأعداء وتحافظ عليها
(البيض) من الكسر إضافة إلى
تدفئتها بدرجة معقولة دون
تعريضها إلى حرارة عالية،
وتقوم الكائنات الحية بنقل
بيضها إلى مكان آخر عند
إحساسها بخطر يهددها وتظل
تحرسها لعدة أسابيع متواصلة
دون كلل أو ملل وحتى أن بعضها
يقوم بحمل البيض بفمه. ويمكن
لنا أن نلاحظ هذه الأنماط
السلوكية المليئة رحمة ورأفة
لدى الكثير من أنواع الأسماك
والطيور والزواحف .
فأفعى " البايتون " مثلا تشكل
تهديدا خطيرا لحياة الإنسان
إلا أنها تسلك تجاه بيضها
سلوكا ينطق عطفا ورأفة. فهذه
اللأفعى تضع تقريبا 100 بيضة
في كل مرة و تلتفّ حول هذا
البيض, والهدف من هذا
الالتفاف هو الحفاظ على البيض
من درجة الحرارة العالية
بالإضلال عليها والحفاظ عليها
من البرودة عن طريق رفع جسمها
و الانفصال عنها. ويضل هذا
البيض بمنأى عن الأخطار طالما
ظلت الأفعى الأم ملتفة حولها.
و بفضل هذه العناية التي
تبديها أنثى "اليايتون" يقل
تأثير الأخطار على حياة
الصغار وهم لا يزالون داخل
البيض (50). وهنالك بعض أنواع
الأسماك يسلك سلوكا غريبا في
العناية بصغاره وهم لا يزالون
داخل البيض إذ تقوم السّمكة
الأم بجمع هذا البيض في تجويف
فمها كوسيلة لحمايتها لذا
تدعى هذه الأنواع بـ "
الأسماك التي ترقد على بيضها
بفمها ", و قسم من هذه الصغار
سرعان ما يلوذ إلى فم أمه
عندما يشعر بالخطر. وهذا
السّلوك شائع لدى أسماك القط
(الشبوط) أو (cat fish ) التي
تستمرّ في السّباحة لمدّة
أسابيع وفمها ملآن بالبيض
الصغير الذي يقدر حجمه بحجم
الكرات الفولاذية الصغيرة
الموجودة في العجلات
الميكانيكية، وتقوم السّمكة
بخض فمها بين الحين والآخر
لتحريك هذا البيض لإفساح
المجال لغاز الأكسيجين المذاب
في الماء للوصول إليها وعند
فقس البيض عن صغار ضعاف
يلجأون إلى فم أبيهم لعدة
أسابيع تالية, وطيلة هذه
الفترة لا يتغذى الذّكر أبدا
ويستخدم مخزونه الدّهني في
مواصلة فعالياته الحيوية (
51).
وتعتبر الضفادع الكائن الحي
الآخر الذي يحمل صغاره وبيضه
في فمه, فضفدع "رينوديرما"
تحمل أنثاه البيض داخل جسمها
وعند حلول موسم التزاوج تضع
الإناث بيضها على الأرض ويبدأ
الذكور في الدّوران حول هذا
البيض في حركة تعبر عن قدرته
على حمايتها من الأعداء.
وعندما تبدأ الأجنحة تتحرك
داخل البيض للخروج منها تهجم
الذّكور على هذه المجاميع
لتلتقم أكبر كمية من هذا
البيض التي تحاط بطبقة
جيلاتينية شفافة ويقوم الذّكر
بتجميع هذا البيض على جانبي
فمه داخل أكياس الصوت,
وبالتالي يبدو فمه منتفخا
للغاية, وتبقى فترة داخل الفم
إلى أوان اكتمال نموها, وفي
النّهاية يبدأ الذّكر بالتجشؤ
عدة مرات وينهي ذلك بأن
يتثاءب فاغرا فمه بصورة واسعة
ليفسح المجال للصّغار الذين
اكتمل نموهم للخروج إلى
الحياة ( 52).
وهناك نوع آخر من الضفادع
يعيش في استراليا يقوم
بازدراد بيضه ليحافظ عليها
ليس في فمه و إنما في كيس
موجود في معدته ويبدو للقارئ
أن البيض في هذه الحالة معرض
للهلاك نتيجة الإفرازات
المعدية الهاضمة إلاّ أنّ
الذي يحدث لدى هذه الحيوانات
هو العكس تماما إذ تتوقف
المعدة عن إفراز هذه
الأنزيمات لحظة ابتلاع الأنثى
لبيضها و بذلك لا يتعرض البيض
لأي خطر (53). وهناك أنواع من
الضفادع تتّبع أساليب متنوعة
في الحفاظ على بيضها كضفدع "
البيبا " الأسود الذي يقوم
ذكره بتجميع البيض بواسطة
سيقانه الزّعنفيّة ليلصقها
إلى ظهر الأنثى ثمّ ينتفخ
الجلد ليساعد على التصاق هذا
البيض, ويتكون غلاف رقيق حافظ
لهذا البيض، وبعد 30 ساعة
يختفي هذا البيض تحت جلد ظهر
الأنثى ويعود إلى شكله
الأصلي, ويبدأ البيض في النمو
تحت جلد الأنثى. وبعد 15 يوما
تبدأ اليرقات في التّحرك داخل
البيض والتي تجعل ظهر الأنثى
تبدو و كأنها في حركة
التوائية. وبعد مرور 20يوما
تشرع الضّفادع الصّغيرة في
الخروج عبر ثقوب تكون قد
فتحتها في جلد الأم, وبعد
خروجها تبدأ في البحث عن ملجئ
آمن لها في الماء.
أما الضفدع الأوروبي الأسود
والمسمى بـالمولِّد أو
القابلة فيقضي أغلب حياته على
اليابسة القريبة من الماء
ويتزاوج على اليابسة أيضا و
لا تترك الأنثى بيضها على
الأرض, ويلقي الذكر عليها
حيامنه, وبعد نصف ساعة يقوم
الذكر بلصق هذا البيض بعضه
ببعض كأنما يقوم بترتيب حبات
المسبحة على الخيط، ثمّ يلصق
هذه السلسلة على سيقانه
الخلفية وتبقى هكذا لمدة
أسابيع عديدة يجرها معه أينما
ذهب وعندما يبدأ هذا البيض في
الفقس يلقي بها في الماء,
ويبقي سيقانه في الماء حتى
اكتمال خروج الصّغار من
البيض. وعند اكتمال هذه
العملية يرجع إلى مسكنه على
اليابسة (54).
بعد هذا العرض للأمثلة
العديدة تبرز أمامنا نقطة
مهمة للغاية، وهي الإنسجام
الكامل بين التكوين الخلقي
لهذه الكائنات الحية والأنماط
السّلوكية التي تمارسها.
فالضّفدع الذي يملك تجويفا
خاصا في جسمه يستخدمه للحفاظ
على البيض ولكنه لا يعلم عن
وجود هذا التجويف في جسمه إلا
أنه مع ذلك يسلك سلوك العارف
بوجود هذا التجويف، أما
الضفدع الآخر الذي ورد ذكره
في الأمثلة فإنه غير عاقل ولا
يملك الإرادة أن يوقف إفراز
الإنزيمات الهاضمة في معدته
كي لا تصيب البيض بأي ضرر ،
وعلى افتراض أنّ هذا النوع من
الضفادع يملك القابلية على
إيقاف إفراز الأنزيمات فإن
هذا الفرض ينافي طبيعة
الكائنات الحية التي لا تملك
القابلية على التّحكم في
الأفعال اللاّإرادية، وكذلك
الحال بالنّسبة إلى الضفدع
الذي يرعى صغاره تحت جلدة
ظهره. كلّ هذه الشّواهد
الحيّة من توافق بين
التّركيبة الخلقيّة والأنماط
السّلوكية لم تتشكّل بمحض
أبدا الصّدفة.
وهذه الصّفات التي أوردناها
كأمثلة تحمل في جوهرها تصميما
وتخطيطا لا يمكن إنكارهما.
والواضح للعيان أن هذه
الكائنات الحية التي تمتلك
خاصّية الانسجام بين التركيب
الخلقي وأنماطها السلوكية هي
كائنات مخلوقة من قبل المولى
عز وجل وهو الذي أبدع صورتها
وخلقها لأنه قادر على كلّ
شيء. ولا يمكن ملاحظة مشاعر
الأمومة والأبوة والرأفة
المبثوثة إلى هذه المخلوقات
بالأمثلة أعلاه فحسب بل فهناك
أمثلة أخرى كالنّمل والنحل
وغيرها من الأحياء التي تبذل
اهتماما منقطع النّظير في
الحفاظ على البيض وعلى
اليرقات داخل الشرانق,
فالعاملات تقوم بحمل البيض
إلى غرف خاصّة داخل الخلية
المنشأة تحت الأرض, وكذلك
الأمر مع اليرقات داخل
الشرانق، وتغير هذه العاملات
مكان بيضها و مكان الشرانق
أيضا حسب تغيّر درجة الحرارة
والرطوبة داخل الخلية إضافة
إلى سعيها الحثيث إلى الحفاظ
على راحة البيض واليرقات بأن
تحملها في فمها لتغيير مكانها
في رحلات متواصلة بين الغرف
داخل الخلية. وإن حدث أن داهم
الخطر الخلية كلّها تقوم
العاملات بحمل البيض والشرانق
إلى مكان آمن خارج الخلية
(55).
أمّا اهتمام الطّيور ببيضها
فيأخذ أشكالا متنوعة تثير
الحيرة والدهشة في آن واحد.
فنحن نجد مثلا طير "المطر"
الصّغير الذي يضع أربع بيضات
في حفرة بالأرض، وإن حدث أن
ارتفعت درجة الحرارة يقوم هذا
الطير بغمس صدره في الماء حتى
تبتل ريشه الأماميّ ثم يرقد
على البيض و يلامس البيض
بريشه المبتلّ, وهكذا يستطيع
أن يخفّف من تأثير الحرارة
العالية (56).
و مما نشاهده في عالم الأحياء
أنّ الكائنات الحية البيوضة
تقوم بتهيئة وسط ملائم من
ناحية درجة الحرارة لاكتمال
نمو الأجنحة داخل البيض,
فالطّيور الغطّاسة على سبيل
المثال تبني أعشاشها من
الطّحالب الطافية على الماء
وتقوم هذه الطيور بتغطية
بيضها بهذه الطّحالب, وهذه
العملية توفر نوعا من التكييف
الحراري داخل العش. أمّا
البجع فيرقد على البيض لتوفير
الدّفء اللاّزم لنموّ الأجنحة
ويغير من وضع رقاده بين الحين
والآخر لتوفير دفء متساو
لجميع البيض (58).
أما الطائر الرّملي فيستخدم
أسلوبا آخر في توفير الدّفء
لبيضه، فبعد أن تضع الأنثى
بيضها في العشّ يتولّى الذّكر
الاهتمام بهذا البيض فيرقد
عليه وينتف ريشه الذي يغطي
منطقة الصّدر ويفرشه في أنحاء
العش وتمتلئ الأوعية الدّموية
الموجودة في صدره بكمية زائدة
من الدم، وحرارة هذا الدم
تكون كافية لتوفير الدّفء
اللاّزم للبيض طيلة أكثر من
ثلاثة أسابيع. وعندما يخرج
الصّغار بعد فقس البيض يستمر
الذّكر في رعاية الصغار أكثر
من أسبوع ونصف ومن ثم يتناوب
مع الأنثى في أداء هذه
الوظيفة المهمة 59.
إنّ الاهتمام بالحفاظ على
درجة الحرارة داخل العش
بمستوى محدود ومقبول يعتبر
أمرا ذا أهمية قصوى لكافة
الكائنات الحية. والمثير
للدّهشة أن الحيوانات تتبع
أساليب مختلفة ومتنوعة في
إنجاز هذه العمليّة الحياتيّة
المهمّة وتبدي حساسية بالغة
تجاهها. وهنا تبدو أمامنا
استحالة إدراك الطير أو
الأفعى أو النحل لأهمية
الحفاظ على الحرارة بمستوى
دقيق وبالتالي اتباعها أسلوبا
مثيرا للدّهشة في إنجاز هذه
العملية من تلقاء ذاتها.
ومصدر هذه المعرفة و الإدراك
هو الله سبحانه وتعالى الذي
خلق هذه الكائنات و أودع فيها
هذه الخصائص الحياتية ليضرب
بها الأمثال للإنسان المتفكر.
و هذه الكائنات الحية وهي
تسلك سلوكا من وحي إلهام إلهي
تنشط نشاطا دؤوبا لا يعرف
الكلل ولا الملل. فمثلا تبني
بعض الطيور عدة أعشاش يكون
أحدها لرعاية الصّغار
وتنشئتهم والأخرى لوضع البيض
والرّقود عليه. ويتصف بهذه
الصّفات كلا من طائر "
المطر"الصّغير والطيور
الغطّاسة إذ يتناوب الذّكر
والأنثى في عملية الاهتمام
بالصغار والرقود على البيض.
والأغرب من هذا مساعدة الفراخ
الموجودة في العش الأول
للفراخ الموجودة في العش
الثاني, وهذا النموذج يمكن
رؤيته لدى طائر "دجاج الماء
"و"خطاف الشّباك"حتى أن أزواج
الطّيور تساعد أزواجا أخرى في
العمل مثلما هو موجود لدى
طائر النحل. وهذا النّوع من
التعاون والتكافل شائع لدى
الطيور عامة 60. وهناك عامل
مهمّ في نسف نظرية التّطور من
الأساس, وهذا العامل يتلخّص
في الرأفة التي تبديها
الحيوانات ليس فقط تجاه
صغارها بل تجاه صغار حيوانات
أخرى. وحسب ادّعاء دعاة
التّطور يكون من المستحيل
رؤية هذه الأنماط من السّلوك
لدى الكائنات الحيّة في حين
أنّ ما يصدر عنها من سلوك هو
مثال في ا الرّأفة والتّضحية
ومن المستحيل أن تكون قد
تشكلت بالصّدفة. وهناك أمثلة
لا تحصى في الطبيعة على
التعاون والتكافل بين
الأحياء. وهذا دليل واضح على
أنّ الطّبيعة ليست وليدة
الصّدفة و العبث كما يدّعي
المادّيون .
بطريق الإمبراطور و صبره
الخيالي
هناك حيوان يظهر عزما غريبا
في الحفاظ على بيضه وصبرا لا
مثيل له وتفانيا مثيرا
للدّهشة, وهذا الحيوان هو
بطريق الإمبراطور. فهذا
الحيوان يعيش في القطب
الجنوبي الذي يتميز بظروف
بيئيّة قاسية جدّا. تبدأ
أعداد كبيرة من هذا الحيوان
تقدر ب 25000بطريق رحلتها
للتزاوج, و يقدر طريق الرّحلة
بعدة كيلومترات لاختيار
المكان المناسب للتزاوج,
وتبدأ هذه الرّحلة في شهر
مارس وأبريل (بداية موسم
الشتاء في القطب الجنوبي ),
ومن ثم تضع الأنثى بيضة واحدة
في شهر مارس أو حزيران.
والزّوج من البطريق لا يبني
عشّا لبيضته بل لا يستطيع ذلك
لعدم وجود ما يبني به في بيئة
مغطاة بالجليد. بيد أنّه لا
يترك بيضته تحت رحمة برودة
الجليد لأن هذا البيض معرض
للتّجمد بمجرد تعرضه لبرودة
الجليد القاسية, لذا يحمل
بطريق الإمبراطور بيضه على
قدميه و يقترب الذّكر من
الأنثى بعد وضعها للبيضة
الوحيدة بعدّة ساعات
لاصقاصدره بصدرها ويرفع
البيضة بقدميه. ويحرص كلاهما
أشدّ الحرص على ألاّ تمسّ
البيضة الجليد, ويقوم الذكر
بتمرير أصابع قدميه تحت
البيضة ومن ثمة يرفع الأصابع
ليدحرج البيضة باتّجاهه. وهذه
العمليّة تتم بكل هدوء وإتقان
لتجنب كسر البيضة. وأخيرا
يقوم بحشر البيضة تحت ريشه
السّفلي لتوفير الدّفء اللازم
.
وعملية وضع البيضة تستهلك
معظم الطّاقة الموجودة في جسم
الأنثى لذا فإنّها تذهب إلى
البحر لتجمع غذاءها وتسترجع
طاقتها في حين يبقى الذكر
لحضن البيض, و تتميز فترة حضن
البيض لدى بطريق الإمبراطور
بصعوبة مقارنة بباقي أنواع
الطّيور إضافة إلى حاجتها
الشّديدة للصّبر من جانب
الذكر, فهو يقف دون حراك مدة
طويلة و إذا لزمت الحركة
فإنّه لا يفعل ذلك إلاّ
لأمتار قليلة براحة القدمين.
وعند الخلود إلى الراحة يستند
الطير على ذنبه كما لو أنّه
قدم ثالث ويرفع أصابع قدميه
بصورة قائمة كي لا تلمس
البيضة الجليد. ومن الجدير
بالذّكر أنّ درجة الحرارة في
الأقدام المغطّاة بالرّيش
السّفلي أكثر ب:80 درجة عن
المحيط الخارجي لذلك لا تتأثر
البيضة بظروف البيئة الخارجية
القاسية .
وتزداد ظروف البيئة قسوة كلما
تقدم فصل الشتاء بأيامه
وأسابيعه حتى أن الرياح
والعواصف تبلغ سرعتها 120-160
كم في الساعة, وبالرغم من ذلك
يبقى الذكر ولمدة أشهر دون
غذاء ودون حراك إلاّ للضّرورة
ضاربا مثلا مثيرا للدّهشة في
التّضحية من أجل العائلة,
وتبدي العائلة تضامنا كبيرا
لمقاومة البرودة القاسية إذ
أنّ حيوانات البطريق تتراصّ
واضعة مناقيرها على صدورها
وبذلك يصبح ظهرها مستويا
ومشكّلة دائرة فيما بينها
وسدا منيعا من الرّيش في
مواجهة البرد القارس. وتحدث
هذه العملية بإخلاص و تنظيم
دقيق دون أن تحدث أية مشكلة
بين الآلاف من هذه الطّيور
المتراصّة, وتظل هكذا لمدة
أشهر عديدة بصورة من التعاون
المدهش والمثير للحيرة
والإعجاب. فحتّى الإنسان
تصيبه مشاعر الملل و الأنانية
في هذه الظروف القاسية رغم
كونه مخلوقا عاقلا يسير وفق
مقاييس أخلاقية و عقلية. ولكن
البطريق يبقى متعاونا متكاتفا
ويعمل الفرد من أجل المجموعة
بأكمل صورة ممكنة، والتّضحية
التي يبديها هذا الحيوان
للحفاظ على البيض تحت هذه
الظروف القاسية تعتبر منافية
لمفاهيم نظرية التّطور التي
تدّعي أنّ البقاء للأصلح
والأقوى و نكتشف أنّ الطّبيعة
ليست مسرحا للصّراع بل معرضا
للتفاني والتضحية التي يبديها
القوي للحفاظ على حياة
الضعيف. وبعد ستين يوما من
الظّروف القاسية يبدأ البيض
في الفقس، ويستمر الذكر في
تفانيه من أجل الصّغير علما
أن هذا الذكر لم يتغذ أبدا
طيلة فترة الرّقود على البيض.
ومن المعلوم أن البطريق
الخارج لتوّه من البيض حيوان
ضعيف و صغير يحتاج إلى تغذية
و عناية مستمرّة فيفرز الذكر
من بلعومه مادة سائلة شبيهة
بالحليب يتم إعطاؤها للفرخ
الصغير ليتغذى عليها. و في
هذه الفترة الحرجة تبدأ
الإناث في العودة وتبدأ
بإصدار أصوات مميزة فيردّ
عليها الذكور بصوت مقابل وهذه
الأصوات هي نفسها التي
استخدمت في موسم التزاوج
وبواسطتها يعرف الذكر والأنثى
بعضهما البعض. وقد وهب الله
سبحانه وتعالى هذه الحيوانات
قدرة التمييز بين الأصوات وهو
اللّطيف الخبير .
وتكون الأنثى قد تغذت جيدا
طيلة فترة الغياب ويكون لديها
مخزون جيد للغذاء, وتضع هذا
المخزون أمام الفرخ الصغير و
هو أوّل طعام حقيقي يتناوله
بعد خروجه من البيض. وقد
يتبادر إلى الذهن أن عودة
الأنثى تعني خلود الذكر
للرّاحة ولكن هذا لا يحدث
أبدا, فالذّكر يظل على
اهتمامه ورعايته لمدة عشرة
أيام أخرى ويقوم خلالها بمسك
الفرخ الصغير بين قدميه, ثم
يبدأ رحلة بعد ذلك إلى البحر
ليتغذى بعد حوالي أربعة أشهر
من الصيام عن الحركة والغذاء.
و يظل الذّكر غائبا من ثلاثة
إلى أربعة أسابيع يعود بعدها
إلى الاهتمام بالفرخ كي ترجع
الأنثى بدورها إلى البحر
لتصيب من الغذاء ما تيسّر
لها. تكون هذه الفراخ الصغيرة
في المراحل الأولى من حياتها
غير قادرةعلى تنظيم حرارة
أجسامها لذا تكون معرضة للموت
في حالة تركها وحيدة تحت ظروف
البرد القاسية، لذلك يتناوب
الذكر والأنثى في عملية
الحفاظ على حياة الصّغير
وتوفير الدّفء والغذاء له
(62).
وكما هو واضح في هذا المثال
فكلاهما يتفانى ويضحي حتّى
بحياته إذا اقتضى الأمر في
سبيل الحفاظ على حياة الفرخ
الصغير. إنّ الإلهام الإلاهي
هو التّفسير الوحيد لهذه
التضحية والتعاون الذيْن
يبديهما الذكر والأنثى للحفاظ
على حياة الصغير. إنّ المتوقع
من هذا الحيوان غير العاقل أن
يترك هذا البيض وشأنه ويفكر
في الخلاص والنجاة من البرد
القاسي إلا أن لطف الله
سبحانه وتعالى بهذه الحيوانات
جعلها ترأف ببيضها وفرخها
وتظهر هذه الصورة الرائعة من
التكاتف والتعاون والتضحية.
حصان البحر: الكائن الحي
الوحيد الذي يكون ذكره حاملا
يتميز ذكر هذا الحيوان بأن
جسمه يحتوي على كيس خاص يضع
فيه البيض الذي تضعه الأنثى,
وتقوم الأنثى بوضع هذا الجنين
داخل كيس الذّكر, و يقوم هو
برعاية هذا البيض و مده
بالغذاء عبر سائل يتم إفرازه
داخل هذا الكيس شبيه بـسائل
البلازما, وتستمر عملية
التغذية حتى اكتمال نمو
الجنين. ويظل الذّكر على هذا
الوضع مدة تتراوح بين عشرة
أيام و اثنين و أربعين يوما.
وتقوم الأنثى بتفقد الذكر كل
صباح, و مراقبة البيض تساعدها
في معرفة لحظة اقتراب الولادة
من قبل الذّكر وبالتالي
التهيؤ من أجل وضع البيض مرة
أخرى (63).
سمك "الأثرينا" والرّحلة
المحفوفة بالمخاطر
يتميز هذا النوع من السّمك عن
باقي الأنواع بأنه يضع بيضه
على اليابسة، لأن البيض لا
يكتمل نموّه إلا في هذا
الوسط. والرّحلة إلى اليابسة
ولو لفترة قصيرة تعني الموت
بالنسبة إلى هذه الأسماك.
وبالرغم من هذه المخاطر تقوم
هذه الأسماك برحلتها مجابهة
خطر الموت في سبيل الحفاظ على
النّسل, ومن بفضل الإلهام
الإلهي تقوم هذه الكائنات
باختيار الوقت والظرف
المناسبين للخروج من الماء،
وتنتظر هذه الأسماك إلى أن
يصبح القمر بدرا ثم تخرج لدفن
البيض في رمال السّاحل.
وانتظارها للبدر يرجع إلى أنّ
الأمواج العاتية تتزامن مع
اكتماله فتزحف هذه الأمواج
على السّواحل الرّملية. وهذه
الأمواج تستمر مدّا و جزرا
لمدة ثلاث ساعات تختار فيها
هذه الأسماك الموج الملائم كي
تمتطيه لإلقاء فقسها على
الساحل الرملي. وعند انحسار
الموج تقوم الأنثى في خلال
هذه الفترة القصيرة والخطيرة
بحفر مكان بعمق خمسة سنتمترات
بواسطة جسمها المتقلص
والمنحني وتقوم بوضع بيضها في
هذه الحفرة.
ولا تنتهي هذه العملية عند
هذا الحد لأنّ الإناث يجب أن
تدفن هذا البيض وتغطيه كي
ينمو بصورة جيّدة. كلّ هذه
الخطوات يجب أن تحدث قبل أن
تغمر السّاحلَ مياهُ الأمواجِ
وإلاّ فإن حياة السّمكة سوف
تكون معرضة للهلاك. والملاحَظ
في هذا المثال أنّ السّمكة
تخاطر بحياتها حرصا على
النّسل في صورة رائعة من
التّضحية والفداء فضلا عن
سلوكٍ يتّسم بالحساب الدقيق و
التقدير الذكيّ (64 ).
ولو تأملنا في سلوك هذه
السّمكة الذي يتسم بالتّخطيط
والتضحية لأدركنا أنّ هناك
موجّها ومنظّما لهذه الخطوات،
فالسّمك يعمد إلى اختيار هذا
الأسلوب للتكاثر من بين
المئات من الأساليب الأخرى.
ولنفترض أن هذا النّوع من
السّمك قد اكتسبت هذه الطريقة
في التكاثر عن طريق الصّدفة,
ترى ماذا يمكن أن يحدث بعد
ذلك ؟ إنّ هذه السّمكة ستتعرض
للموت في أوّل خروج لها إلى
اليابسة لأنها ستقوم بتجربة
أنجع وسيلة لوضع البيض خلال
فترة قصيرة جدا وخطيرة أيضا
وتحت ظروف مستحيلة أيضا، لذا
فإنّ انتظارها للبدر وتزامنه
مع مدّ الأمواج و جزرها على
السّاحل الرّملي وامتطاءها
لهذه الأمواج وخروجها إلى
السّاحل ووضعها البيض ودفنها
إياه كلّ ذلك ليس إلاّ وحيا
وإلهاما من الله العليّ
القدير الذي ألهما بلطفه هذه
المقدرة الفائقة.
العشّ الذي ينشأه السّمك
"المقوس" من الطّحالب
تقوم أنثى هذا النّوع من
السّمك بوضع البيض طيلة شهري
ماي وحزيران، والعلامة
الدّالة على موسم التّبييض هي
بروز لون البقعة السّوداء
الموجودة في نهاية الذيل.
وتختار الأنثى موضعا قريبا من
ضفة بحيرة أو نهر جار تكثر
فيه الطّحالب وتنشأ في هذا
الموضع عشّا دائريّ الشّكل، و
في تلك الأثناء يقوم الذّكر
بالسّباحة حول نفسه دافعا
الطّحالب اللاّزمة لبناء
العشّ نحو الأسفل, ويلتصق
البيض عند الوضع بأوراق
النّباتات وفروعها التي بني
منها العش ويقوم الذكر
بحراستها والسّباحة حولها
بحركة مستمرّة لدفع الماء
وتحريكه لتسهيل التهوئة
اللاّزمة لأجنّة البيض.
ويستمرّ الذّكر في رعاية
الصّغار حتى يبلغ طول الواحد
منها 10سم (65).
الارتحال طويلا من أجل
التّكاثر: "الحوت الرّماديّ"
في ديسمبر ويناير من كل سنة
يقوم "الحوت الرمادي" برحلة
تبدأ من المحيط المتجمّد
الشّمالي عبر السّواحل
الشّمالية والجنوبيّة
الغربيّة لأمريكا متوجها إلى
كاليفورنيا, وهدفه من هذه
الرّحلة بلوغ المياه الدافئة
من أجل التكاثر، والغريب في
هذه الرّحلة أنّ الحيوان لا
يتغذّى أبدا، وسبب ذلك أن هذا
الحيوان قد تغذّى جيدا في
الصّيف السّابق لهذه الرّحلة
من موادّ الغذاء الموجودة في
المياه القطبية الشمالية.
وتضع الأنثى مولودها عند
بلوغها المياه الاستوائية
القريبة من السّواحل الغربية
للمكسيك، وترضع الأنثى صغيرها
باللّبن مثل جميع اللّبائن
ويكون غنيّا بالدّسم اللاّزم
لطاقة الصّغي,ر فهذه الطّاقة
لازمة للصّغير الذي سوف يعود
مع باقي الحيتان الرّمادية في
رحلة مضنية إلى المناطق
الشّمالية الباردة 68.
العناية الفائقة التي تبديها
سمكة"السّحليد"
يظهر ذكر هذا النوع من السمك
وأنثاه عناية فائقة بالبيض
والصغار التي تخرج منه، فيظلّ
أحدهما واقفا فوق المكان الذي
يوضع فيه البيض ويحرك زعانفه
وذيله باستمرار ويتناوبان على
أداء هذا العمل كل بضعة
دقائق، والهدف من تحريك
الزّعانف والذّيل هو إتاحه
أكبر كمية ممكنة من الأوكسجين
اللاّزم لنمو الأجنحة وكذلك
منع تراكم سبورات الفطريات
التي تحول دون نمو الأجنّة.
وهذه العناية الفائقة التي
يبديها هذا النوع من السّمك
تجاه بيضه مردّها كون
النّظافة تمثل العنصر الأساس
في نمو الأجنّة، حتى أنّ هذا
السّمك يقوم بإتلاف البيض غير
الملقّح كي يمنع تعفّنه لأنّ
تعفّنه يؤدّي إلى إلحاق
الضّرر بباقي البيض الملقح.
وفي المراحل التالية يحمل
الذّكر والأنثى البيض بفمهما
بالتّناوب لوضعه في حفر صغيرة
على شكل شقوق في الرّمل إلى
أن يحين الفقس, وتتكرّر
عمليّة الحمل عدة مرات حتى
يكتمل نقلها، وعند فقس البيض
عن أسماك صغيرة يتولّى الذّكر
والأنثى مهمّة الحماية
وبالتناوب أيضا. وتكون هذه
الأسماك عموما مجمّعة في مكان
واحد وإذا حدث و إن ابتعدت
واحدة منها عن المجموع فإنّ
الذّكر أو الأنثى يحملها في
فمه و يعيدها إلى مكان اجتماع
الصّغار مرّة أخرى (69).
ليست سمكة السّحليد الوحيدة
التي تهتم بالنظافة اهتماما
شديدا بل هناك مخلوقات أخرى
مشهورة في هذا المجال مثل:
"أم أربع وأربعين" فالأنثى
تعمل على لحس البيض باستمرار
لكي تمنع نموّ الفطريات عليها
ثم تلف نفسها حول هذا البيض
لتوفّر لها الحماية الكاملة
لها 70. أمّا أنثى الأخطبوط
فتضع بيضها بين الشّقوق
الموجودة في الأحجار وتظل
تراقبها بعناية، و بين الحين
والآخر تنظّف هذا البيض بدفع
الماء إليه بواسطة التّراكيب
العضوية اللاّمسة الموجودة في
أذرعها (7).
التّفاني لدى النّعام
من المعلوم أن أشعّة الشّمس
القوية التي تشرق على قارة
إفريقيا لها تأثيرات قوية
وقاتلة على الكائنات الحية،
لذا تلجأ الكائنات الحية إلى
المناطق الظليلة لحماية نفسها
من هذه الأشعة، ويشذّ عن هذه
القاعدة النعام الذي يستوطن
جنوب إفريقيا لأنه يهتم
بحماية بيضه وفراخه من الشّمس
أكثر من حماية نفسه، ويستخدم
جناحيه الواسعين في التّظليل
على بيضه وفراخه (72) ولكنّ
الملاحظ هنا أن هذا الطّير
يقف بجسمه تحت الشمس معرضا
نفسه لخطرها من أجل حماية
العشّ ضاربا المثل بالتّضحية
من أجل الصّغار الضعاف.
"العنكبوت الذئب" وحمله صغاره
داخل كيس حريري
إنّ أنثى العنكبوت تقوم بوضع
بيضها داخل شرنقة حريريّة على
شكل كرة أو على شكل قرص,
وتقوم بفرز هذه الشّرنقة
لتكوين ملجئ آمن لبيضها فتقوم
بلصق هذه الشّرنقة بمؤخرة
بطنها وتظل هكذا أينما ذهبت و
إذا حدث أن انفصلت عن جسمها
تعود وتلصقها مرة أخرى. و
عندما يفقّس هذا البيض عن
عناكب صغيرة تظل داخل الشرنقة
حتى أوان انشقاقها ثم تخرج
إلى ظهر أمّها وتظل تحملهم
أثناء حلّها و ترحالها. و بعض
أنواع هذا الجنس من العنكبوت
تكون أعداد صغاره كثيرة جدّا
حتى أنّهم يشكّلون عبارة عن
طبقة فوق طبقة على ظهر الأم,
و هذه العناكب الصغيرة لا
تتغذى في هذه المرحلة.
وهناك نوع آخر يدعى بـ"عنكبوت
الذئب المعجزة" و تقوم أنثى
هذا العنكبوت عند حلول موسم
فقس البيض في شهر حزيران أو
تموز بفصل الشّرنقة الحاوية
على البيض ونسج مظلّة عليها
ثمّ تكمن إلى جانبها تحرسها,
وفي تلك الأثناء يكون البيض
قد فقّس عن عناكب صغيرة غير
مكتملة النّمو وتبقى داخل
المظلة, و عند اكتمال نموّها
تخرج منها متفرّقة إلى نواحي
شتّى (73).
لاشك أنّ هذا السّلوك المتّسم
بالإخلاص والرّعاية والرأفة
والصبر يثير في أذهاننا
تساؤلات عديدة.
اهتمام الحشرات بالبيض
إنّ المصاعب التي تواجه بعض
أنواع الحشرات التي تعيش على
سطح المياه تعتبر معها الحياة
شبه مستحيلة لأن بيضها على
درجة كبيرة من الضّعف تجاه
التّيبّس, و إذا ترك على سطح
الماء فإنّه سيتعرّض لهذا
الخطر, أمّا إذا وضع تحت سطح
الماء فإنّ الأجنة التي
بداخلها سوف تهلك لانعدام
الأكسيجين, لذا تتولى ذكورها
عملية تهوئة البيوت الموضوعة
على سطح الماء و ترتيبها.
وهناك حشرة مائيّة عملاقة
تدعى ثوسيروس. تقوم أنثى هذه
الحشرة بوضع البيض على غصن
طاف على الماء وأمّا الذّكر
فيغطس في الماء ويخرج منه
واثبا من فوق هذا الغصن كي
تتساقط من جسمه قطيرات الماء
على هذا البيض لترطيبه و
حمايته من خطر باقي الحشرات.
أمّا حشرة بيلوستوما العملاقة
-وغالبا ما يمكن رؤيتها في
أحواض السّباحة- فتقوم الأنثى
بلصق البيض على ظهر ذكر
الحشرة و يتحتّم عليه
السّباحة في الماء لترطيبه
وتهوئته، ويظلّ لعدة ساعات
يحرّك أطرافه الخلفيّة
والأماميّة للأمام والخلف أو
يظلّ ملتصقا بغصن طاف لترطيب
وتهوئة هذا البيض.
أما الحشرات ذات الأجنحة
الغمدية وخصوصا من نوع
"بليديوس" والبريّة من نوع "
بمبيديون" والتي تكثر في
المستنقعات من نوع "
هتروسيروس" فتتميّز بخاصيّة
غريبة جدّا في المحافظة على
البيض من تأثير المياه التي
تغمرها, فتقوم بسدّ فتحة
شرانق البيض الضيقة عندما
تغمرها المياه و تفتح هذه
الفتحة عند انحسار الماء عنها
(75).
إنّ استخدام الحشرات لهذه
الطّرق المتقدمة في الحفاظ
على سلامة البيض تنّم عن سلوك
منطقي مستند إلى عقل مدبّر
ممّا يقودنا إلى حقيقة الخلق
مرة أخرى.
اهتمام النحل البري بصغاره
الذين لن يراهم أبدا
هناك نوع من النّحل البرّي
يدعى بـ"الحفّار" لأنّه يحفر
في الأرض حفرة خاصة بيرقته
وتكون هذه الحفرة منحنية بعض
الشيء. وعمليّة الحفر
بالنّسبة إلى هذه الحشرة غاية
في الصّعوبة, فهي تأخذ حفنة
بفمها و تدفعها بأطرافها
الأماميّة للتخلص منها. وهناك
خاصية أخرى لهذا النّوع من
النّحل وهي اتقانه للتّمويه
فهو لا يترك أثرا أبدا على
عملية الحفر, ويتمثّل هذا
التّمويه في التقامه لكتل
التّراب التي أزالها عند
الحفر ويجعلها تحت فكه
وينقلها جزءا جزءا إلى مكان
بعيد و يضع هذه الأجزاء
مبعثرة منتشرة لا تجلب
الانتباه. وعندما ينتهي الحفر
و يصبح هناك مكان متّسع لحجم
النّحلة تبدأ الأنثى بتكوين
ملحق خاصّ لهذه الحفرة يكفي
لاحتواء البيضة و مخزونها
الغذائي. وعندما تنتهي من ذلك
تقوم بسدّ هذه الحفرة مؤقتا
وتبدأ رحلة طيران من أجل
البحث عن الغذاء .
تتخصص أنواع هذا النحل في
اصطياد أنواع من الحشرات مثل
الجراد واليرقات والحشرات
الطّنّانة, وطريقة اصطياد هذا
النّحل لفريسته مختلفة عن
المعتاد لأنه عند اصطياده
للفريسة لا يقتلها بل يعمل
تخديرها بواسطة إبرته
اللاّسعة ثم يحملها إلى ملجئه
الآمن، وعند وصوله إليه يضع
بيتضه الوحيدة على هذه
الفريسة المخدّرة التي تظل
طازجة و هي تكفي مادّةً
غذائيّةً لليرقة التي ستخرج
من البيضة الوحيدة. وبعد أن
توفّر الأمّ المكان والغذاء
لصغيرها يكون من اللاّزم
توفير الحماية له, فتجتهد في
سدّ مدخل الحفرة بالتّراب
والحصى بكل إتقان و عناية ثمّ
تتناول قطعة حجر بفكها
وتستخدمها بمثابة مطرقة
لتسوية مدخل الحفرة، وفي
النّهاية تقوم بتهذيب التّراب
في المدخل بواسطة سيقانها
المشوّكة كي تكتمل عملية
التمويه. و هكذا تصبح الحفرة
مخفيّة تماما إلاّ أنّ هذه
الحشرة لا تكتفي بذلك بل تنشر
عدة حفر وهمية هنا وهناك
بالقرب من الحفرة الأصليّة
للتّمويه أيضا. أمّا الغذاء
الموجود في الحفرة فيكفي
لتغذية اليرقة التي ستخرج من
البيض وحتى اكتمال نموها
لتصبح حشرة كاملة تستطيع
الخروج من الحفرة إلى العالم
الخارجي (77). إنّ الحيوان
الصّغير الذي سيخرج من البيضة
يكون مجهولا دوما بالنّسبة
إلى الأم ولكنّها تعدّ له
مسكنا آمنا وغذاء كافياً
وتتحمّل لتحقيق ذلك صعوباتٍ
جمّةً, وكلّ ذلك ضمن سلوك
يتمّ بأعلى درجات التّضحية
والإخلاص والرّقّة.
ويتضح لنا من خلال هذا المثال
أنّ هذه الحشرة الصّغيرة غير
العاقلة لا تستطيع أن تتصرّف
من تلقاء نفسها هكذا إلاّ أن
يكون ذلك بوحي توجيه من قوة
عليّة تهديها نحو الأمن و
السّلامة. ودعاة التّطور كما
وضّحنا سلفًا يدّعون بأنّ هذه
الأنماط السّلوكيّة المبرمجة
في هذه الأحياء وهذه البرمجة
مصدرها الطّبيعة أو المصادفات
الموجودة في هذه الطبيعة، و
نحن نعرف أنّ هذه المصادفة
غير عاقلة ولا شعورّية في نفس
الوقت. ولو تأمّلنا هذه
الأنماط السّلوكية الصّادرة
عن هذه الأحياء غير العاقلة
لأدركنا مدى سطحيّة هذا
الإدّعاء العقيم. والإنسان
العاقل يستطيع أن يدرك أنّ
الإلهام الإلهيّ لهذه الأحياء
هو مصدر سلوكها العجيب
والغريب.
كل شيء من أجل الصغار
غالبا ما يكون الصّغار
محتاجين إلى الرّعاية
والاهتمام وهم يخطون خطواتهم
الأولى في الحياة, وعموما
يكون الصّغار إمّا عمياناً أو
عراةً أو لا يملكون مهاراتٍ
كافيةً في الصّيد, لذا وجب
الاعتناء بهم وتوفير الرّعاية
لهم من قبل الأبوين أو القطيع
إلى حين النّضوج وإلاّ فإنّهم
قد يهلكوا نتيجة الجوع
والبرد. ولكنّ العناية
الإلهية قضت بأن يعتني الكبار
بالصّغار في صور رائعة من
الفداء والتّضحية .
تُصبح الكائنات الحيّة خطيرة
وحسّاسة جدّا في حالة تعرّض
صغارها لأيّ خطر، و ردّ فعل
هذه الكائنات الحية عند
شعورها بخطر هو الفرار إلى
أماكن آمنة, و إذا تعذّر
عليها النّأي بنفسها عن الخطر
تُصبح هذه الكائنات متوحّشة و
حادّة تجاه الخطر حفاظا على
حياة الصّغار بشكل أساسيّ,
فالطّيور والخفافيش
(الوطاويط) على سبيل المثال
لا تتوانـى في مهاجمة
الباحثين يأخذون صغارها من
الأعشاش لغرض البحث والدّراسة
(79), و كذلك الحمير الوحشية
أو الزيبرا التي تعيش على شكل
مجاميع. و عندما يتهدّد الخطر
حيوانات مثل ابن آوى تقوم
الجموعة بتوزيع الأدوار فيما
بينها لحماية الصّغار والذّود
عنهم بكل شجاعة و إقدام. و
تحمي الزّرافة صغيرها تحت
بطنها وتهاجم الخطر بساقيها
الأماميّتين أمّا الوعول
والظباء فتتميّز بحساسيّة
مفرطة وتهرب عند إحساسها
بالخطر, و إذا كان هناك صغير
ينبغي الذّود عنه فلا تتردّد
في الهجوم مستخدمة أظلافها
الحادّة.
أمّا اللّبائن الأصغر حجما
والأضعف جسمًا فتقوم بإخفاء
صغارها في مكان آمن و عندما
تحُاصر تصبح متوحشّةً
ومتوثبّة في وجه العدو الذي
يجابهها. فالأرنب على سبيل
المثال مع فرط حساسيّتة و
ضعفه يتحمّل المشقّة و
الصّعاب من أجل حماية صغاره,
فهو يسرع إلى عشّه أو وكره
ويعمد إلى ركل عدوّه بأرجله
الخلفيّة، و يكون هذا السّلوك
أحيانا كافيا لإبعاد
الحيوانات المفترسة (80).
وتتميّز الغزلان بكونها تعمد
إلى الجري وراء صغارها عند
اقتراب الخطر منها,
فالحيوانات المفترسة غالبا ما
تهاجم من الخلف لذلك فإن
الغزال الأمّ تكون بذلك أقرب
ما يكون من صغارها وتبعدهم عن
مواطن الخطر, وفي حالة اقتراب
الخطر تجتهد في صرف نظر
الحيوان المفترس بهدف حماية
صغيرها (81).
وهناك بعض اللّبائن تستخدم
ألوان أجسامها للتّمويه وسيلة
لدرء الخطر إلاّ أنّ صغارها
تحتاج إلى توجيه وتدريب على
وسيلة الاختفاء هذه، ومثال
على ذلك حيوان اليحمور حيث
تقوم الأنثى بالاستفادة من
لون صغيرها في خطّة للتنكّر
بهدف الإفلات من الأعداء, فهي
تخفي صغيرها بين شجيرات
وتجعله ساكنا لا يتحرك، ويكون
جلد الصّغير بنّي اللّون
مغطًّى ببقع بيضاء, وهذه
التّركيبة اللّونية مع أشعّة
الشّمس المنعكسة تكون خير
وسيلة للانسجام مع لون
الشّجيرات التي تحيط به. و
هذه الطريقة في التخفّي تكون
كافيةً لخداع الحيوانات
المفترسة التي تمرّ بالقرب
منه، أمّا الأمّ فتبقى على
بعد مسافةٍ قصيرةٍ تراقب ما
يحدث دون أن تثير انتباه
الأعداء، غير أنّها تقترب
أحيانًا من صغيرها لكي ترضعه.
وقبل ذهابها إلى الصيّد تجبر
صغيرها على الجلوس بواسطة
منخرها، ويكون الصّغير عادة
متيقظا و حذرًا, و عندما يسمع
صوتا غير عاديّ سرعان ما يعود
إلى الجلوس و الاختفاء خوفا
من أن يكون مصدر خطرٍ
بالنّسبة إليه. و يظلّ الوليد
على هذا الشّكل حتّى يصبح
قادرًا على الوقوف على قدميه
والتّنقّل مع أمّه (82).
و ثمّة حيوانات تُظهر ردّ
فعلٍ عنيف تجاه العدوّ
المرتقب بل وتوجيه ضرباتٍ
بهدف تخويفه و إبعاده مثل
البوم وبعض أنواع الطّيور
التي تسلك سلوكا استعراضيّا
يتمثّل في مدّ جناحيه فيبدو
أكبر من حجمه الطّبيعي. وهناك
طيور تقلّد فحيح الأفاعي
لإرهاب الأعداء مثل طائر ذو
الرأس الأسود mari ba?tankara
الذي يصدر أصواتا صاخبة
ويرفرف بجناحيه داخل عشّه,
ويبدوا الأمر مخيفا داخل
العشّ المظلم وسرعان ما يلوذ
العدوّ بالفرار أمام هذه
الضّوضاء والحركة (83).
والظّاهرة الملحوظة لدى
الطّيور التي تعيش على شكل
تجمّعات هي العناية التي
يوليها الكبار للصّغار وحرصهم
على حمايتها وخصوصا من خطر
طيور "النّورس" إذ ينطلق فرد
أو اثنان بالغان و يحومان حول
مكان تجمّع الأسراب لترهيب
النّوارس وإبعادها عن
الصّغار. و مهمّة الحماية هذه
يتمّ تنفيذها بالتّناوب بين
الطّيور البالغة و كلّ من
ينهي مهمّته يذهب إلى مكان
آخر بعيد تتوفّر فيه المياه
للصّيد والتّغذية وجمع
الطّاقة للعودة مرّة أخرى
(84).
و تتميّز الوُعول بروح
التّضحية من أجل صغارها خصوصا
عندما تشعر بخطر يداهم
صغيرها، فهي تقوم بحركة غاية
في الغرابة إذ تلقي بنفسها
أمام هذا الحيوان المفترس
لتلهيه عن افتراس ولدها
الصغير. وهذا الأسلوب يمكن
ملاحظته في سلوك العديد من
الحيوانات مثل أنثى النّمر
التي تجتهد في القيام بما في
وسعها حتّى تصرف انتباه
الأعداء المتربّصين بصغارها.
أمّا الرّاكون فأوّل ما يفعله
عند إحساسه بالخطر الدّاهم هو
أن يأخذ صغاره إلى قمّة أقرب
شجرة ثمّ يسرع نازلا إلى
الحيوانات المفترسة ويكون
وجها لوجه معها, ومن ثمّ يبدأ
بالفرار إلى ناحية بعيدة عن
مكان الصّغار ويستمر في
الابتعاد حتّى يطمئنّ إلى
زوال الخطر و عندئذ يتسلل
خلسةً عائداً إلى صغاره. وهذه
المحاولات لا يُكتب لها
النّجاح دائماً لأنّ الصّغار
قد ينجون من خطر المفترسين
إلاّ أنّ الأبوين قد يتعرّضان
للموت و الهلاك (85).
وهناك طيور تقوم بتمثيل دور
الجريح لصرف نظر العدوّ
المفترس عن الفراخ الصّغيرة،
فعند إحساس الأنثى باقتراب
الحيوان المفترس تتسلّل بهدوء
من العشّ ولماّ تصل إلى مكان
وجود العدوّ تبدأ في التخبّط
و ضرب أحد جناحيها على الأرض
و إصدار أصوات مليئة
بالاستغاثة وطلب النّجدة, بيد
أنّ هذه الأنثى تأخذ حذرها
اللاّزم فهي تمثّل هذا الدّور
على بعد مسافة ما من الحيوان
المفترس, و يتوهّم أنّ الأنثى
المستغيثة تعتبر غنيمة سهلةً
ولكنّه بذهابه في اتجاهها
يكون قد ابتعد عن مكان وجود
الفراخ الصّغار, ثمّ تنهي
الأنثى تمثيلها وتهبّ طائرة
مبتعدة عن الحيوان المفترس.
إنّ هذا المشهد التّمثيلي
يتمّ أداؤه بمهارة مقنعة
للغاية، و كثيرًا ما تنطلي
هذه الحيلة على القطط والكلاب
والأفاعي وحتى على بعض أنواع
الطّيور. أمّا الطّيور التي
تبني أعشاشها مع مستوى سطح
الأرض فيُعتبرُ التمثيل أداة
فعّالةً و ناجعةً في حمايةِ
فراخها من الأعداء المفترسين،
فالبطّ على سبيل المثال يقوم
بتمثيليّة العاجز عن الطّيران
من على الماء عند إحساسه
بقدوم الحيوانات الخطرة,
ويظلّ هكذا يضرب بجناحيه على
سطح الماء مع إحتفاضه بمسافة
أمان بينه وبين الحيوان
المتربّص به، وعندما يطمئنّ
بأنّ الحيوان المفترس قد
ابتعد عن عشّ الفراخ يقطع
مشهده التّمثيليّ و يعود إلى
عشّه. هذا السّيناريو الذي
يتمّ تمثيله من قبل بعض أنواع
الطّيور لم يجد التّفسير
الكافي و المقنع من قبل علماء
الأحياء (86).
هل باستطاعة الطّير أن يعدّ
مثل هذا السّيناريو؟ لاشكّ,
ينبغي أن يكون على درجة عالية
من الذّكاء والنّباهة. إنّ
هذا السّلوك قبل يقتضي وجود
صفات مثل الذكاء و التّقليد و
القابليّة فضلا عن الشّجاعة
المثيرة للإعجاب عندما يتصّدى
للحيوان المفترس دفاعا عن
الصغار, فهو يجعل من نفسه
صيدًا مطارداً بدون أيّ تردّد
أو خوف. والغريب في الأمر أنّ
هذه الطّيور لا تتعلّم هذا
السّلوك من غيرها من
الحيوانات (87) لأنّ هذا
يتّسم بكونه مكتسبا بالولادة.
والأمثلة التي أوردناها في
هذا العرض السّريع ما هي إلاّ
غيض من فيض في عالم الإحياء
لأنّ ملايين الأنواع من
الكائنات الحيّة تختلف من حيث
أساليب الدّفاع عن النّفس
وطرق الحماية, ولكنّ النّتيجة
المتأتّية من هذه الأساليب هي
مبعث الغرابة في هذا المجال,
لأنّه يصعب أن نفرض أنّ
الطّير يضحّي بنفسه من أجل
صغيره من منطلق سلوك عاقل
منطقي. ويجب أن لا ننسى أنّنا
هنا بصدد الحديث عن مخلوقات
غير عاقلة ولا يمكن أن يتّصف
تفكيرها غير الموجود أصلا
بالرّحمة والمودّة والرّأفة,
والتّعليق الوحيد الوارد في
تفسير هذه الأنماط السّلوكية
يتخلص في كون الله سبحانه
وتعالى هو الذي ألهم الكائنات
الحيّة سلوكا ملؤه الرّحمة
والتّضحية ليضرب لنا الأمثال
برحمته التي وسعت كل شيء.
الحشرات أيضا تحمي صغارها من
المهالك
يعتبر عالم الأحياء السّويدي
"أدولف مودر" أوّل من اكتشف
رعاية الأبوين للصّغار في
عالم الحشرات وذلك سنة1764
عندما كان يجري أبحاثه على
حشرة "المدرع الأوروبي" فوجد
أنّ الأنثى تجلس على بيضها
دون أكل أو شرب وتصبح هذه
الأنثى مقاتلة شرسة عندما
يقترب الخطر من بيضها (88).
وكان العلماء والباحثون في
تلك الفترة أو ما قبلها لا
يقبلون فكرة رعاية الحشرات
لصغارها، وسببُ ذلك يورده لنا
البروفسور دوغلاس.و.تللاني "
من جامعة ديلاور والذي يعمل
أستاذا في علم الحشرات ويؤمن
بنظرية التطور كالآتي :
تجابه الحشرات مخاطر عديدة
أثناء دفاعها عن صغارها
ويتساءل العلماء في مجال
الحشرات عن السرّ في عدم
انقراض هذه الخصلة (خصلة
الدفاع والحماية) أثناء عملية
التّطور، لأنّ وضع البيض
بأعداد كبيرة أفضل
استراتيجياّ من اتباع وسيلة
الدّفاع المحفوفة بالمخاطر و
المهاك (89).
ويعلّق دوغلاسن.و.تللاني أحد
دعاة التّطور على هذا
التّساؤل المحيّر و يرى أنّه
يجب أن تنقرض هذه الميزة حسب
فرضيّات نظرية التّطور, ولكنّ
الموجود والملاحظ في الطّبيعة
أنّها لا تزال موجودة و بصور
عديدة سواء في عالم الحشرات
أو غيرها وليس دفاعا عن
الصّغار فحسب بل عن الكبار
أيضا. ونورد أيضا المثال
الآتي عن التّضحية في سبيل
الأحياء الصغيرة وهو متعلّق
بسلوك حشرة الدانتيلا التي
تعيش في المناطق الجنوبيّة
الغربيّة من أمريكا وتتّخذ من
بعض النّباتات وخاصة
at?s?rgan مسكنا لها، وأنثى
هذه الحشرة تسهر على حماية
بيضها واليرقات التي تخرج
منها وتضحّي بنفسها في سبيل
ذلك. وألدّ أعداء هذه اليرقات
هي حشرة "k?z" والتي تتميّز
بمقدمة فمها الشبيه بالمنقار
ويكون صلبا وحادّا. وتلتقم
هذه الحشرة اليرقات في لقمة
سائغة, ولا تملك حشرة
"الدانتيلا" أيّ سلاح فعّال
تجاه أعدائها سوى الضّرب
بجناحيها وامتطاء ظهور خصومها
لإزعاجهم وإبعادهم. وفي تلك
الأثناء تنتهز اليرقات فرصة
انشغال الأعداء بالصّراع مع
الأمّ للهرب باقتفاء العرق
الرئيسي للورقة النّباتية
التي يعيشون عليه و يتّخذون
هذا العرق طريقا رئيسيّا
للانتقال إلى ورقة أخرى طريّة
وملتوية للاختفاء داخلها. و
إذا استطاعت الأنثى أن تنجو
بحياتها فإنّها تتّبع طريق
صغارها إلى الورقة التي
اختفوا داخلها وتتولّى
حراستهم ورعايتهم في غصن تلك
الورقة قاطعة الطّريق أمام
الأعداء الذين قد يكونون
تتبّعوها إلى تلك الورقة.
وأحيانا تنجح هذه الحشرة في
طرد حشرات "k?z" ثمّ تمنع
يرقاتها من الذّهاب إلى أيّة
ورقة طرية أخرى اعتباطا وإنما
تختار هي بنفسها الورقة
الأكثر أمنا و اتخاذها ملجأ
لهم. وغالبا ما تموت هذه
الحشرات عند الدّفاع عن
يرقاتها ولكنّها توفّر لهذه
اليرقات امكانية الهرب
والاختفاء عن نظر الأعداء
(90).
تغـذيـة الصّـغار
يحتاج الصّغار إلى تغذية من
قبل الأبوين بقدر حاجتهم إلى
الحماية من خطر الأعداء و
يجتهد الأبوان في صيد ما
يقتاتون به أكثر من أي وقت
آخر وذلك لتوفير حاجة الصّغار
من الغذاء وهما في الوقت نفسه
على أهبة الاستعداد لدرء خطر
الأعداء المتربّصين, فعلى
سبيل المثال يقوم ذكر الطّير
والأنثى بتغذية فراخهما بمعدل
4-12 مرة في السّاعة يوميا،
وعندما يكون لديهم أكثر من
فرخ ينبغي عليهم أن يخرجوا من
عشّهم مئات المرّات يوميا
لجلب الغذاء الكافي لأفراد
العائلة، وخير مثال على ذلك
الطّائر ذو الرأس
الأسود"ba?tankara" الذي يخرج
ويعود إلى عشّه بمعدل 900
مرّة يوميا جالبا في منقاره
الحشرات اللاّزمة لتغذية
فراخه (93).
وعملية التّغذية لدى اللّبائن
تختلف نوعا ما لأنّ مسؤوليّة
تغذية الصّغار تخصّ الإناث
لذلك فهي تحتاج تغذية أكثر من
الأيام العادية لتوفير اللّبن
الذي هو مصدر الطّاقة الوحيد
للصّغار، فعلى سبيل المثال
نجد "الفقمة" التي ترضع
صغيرها بعد الولادة من 10-18
يوما ويزداد وزن الرّضيع في
تلك الفترة، أمّا الأمّ
فتتناول غذاء إضافيّا لتوفير
اللّبن للرّضيع, ومع ذلك فإنّ
وزنها يقلّ نسبيّا بالرّغم من
هذه التّغذية الإضافية (94).و
بصورة عامة يكون الذّكور
والإناث في حالة صرف للطاقة
أكثر بثلاثة أو أربعة أضعاف
في المرحلة الأولى التي يكون
لديهم رضيع منها في المرحلة
العادية (95). والأبحاث التي
أجريت في جامعة لوزان تم
التّوصل من خلالها إلى ما
ينفقه الذّكور والإناث لدى
الطيور من طاقة وجهد عندما
يكون لديها فراخ محتاجة إلى
الرّعاية والتغذية. فقد أجرى
أستاذ علم الأحياء في هذه
الجامعة ويدعى "هاينز ريخفر"
وتلامذته تجارب عديدة على طير
ba?tankara وتوصّلوا من
خلالها إلى المسؤولية الجسيمة
التي يتحمّلها ذكر هذا
الطّير. فقد قام هذا الأستاذ
بتغيير عدد الفراخ في الأعشاش
المختلفة و تمّ قياس المجهود
الذي يبذله كل ذكر على حدة
وتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ
الذّكر الذي يملك عددا أكبر
من الفراخ يبذل جهدا مضاعفا,
ولهذا فإنّه يموت مبكرا.
ونسبة التّعرض للأمراض
الطفيلية لدى الذّكور كثيرة
الفراخ تقدر بـ 76% أمّا
الذّكور العادية والتي لها
عدد أقلّ من الفراخ فتقدر بـ
36% (96). هذه المعلومات
توضّح لنا مدى التّفاني
والتّضحية التي يبذلها الطّير
في تنشئة صغاره.
الطّائر الغواصّ والرّيش الذي
يقدّمه طعاما لصغيره
يعتبر هذا الطّائر بمثابة
عشٍّ متحرّك لصغاره إذ يمتطي
الصّغار أباهم أو أمَّهم ثمّ
يفرش هذا الطّائر جناحيه
قليلا لئلاّ يقع الصّغار في
الماء، وعندما يحين الإطعام
يلوي الطير رأسه إلى الخلف
ويبدأ في إطعام صغاره من
منقاره المليء بالغذاء, إلاّ
أنّ أوّل الغيث لا يكون طعاما
بمعنى الطّعام لأنّ الذّكر أو
الأنثى يطعمون صغارهم بالرّيش
الذي جمعوه من الماء أو الذي
نتفوه من صدورهم. ويبلع كلّ
فرخ كمّا لا بأس به من
الرّيش. ولكن لماذا يطعم
الطّير صغيره هذا الريش؟ إنّ
هذا الرّيش الذي يتناوله
الصّغار لا يهضم في معدتهم و
إنّما يتراكم فيها وقسم منها
يتكلّس في الفتحة المؤدّية
إلى الأمعاء، وهذا التّراكم
يمنع من الأذى المصاحب لتناول
الأسماك التي قد تؤذي بَطانة
المعدة والأمعاء بعظامها.
وتستمر الطّيور في تناول
الرّيش طيلة فترة حياتها،
وبلا شك فإنّ أوّل وجبة من
الرّيش يتمّ إطعامها للصّغار
لها أهمّيتها القصوى (97).
و كما هو معروف فإنّ بعض
أنواع الطّيور يطعم صغاره
السّمك, فيغوص الطّير تحت
الماء و يصيد السّمك من ذيله
بحركة سريعة بارعة. وهناك سبب
مهمّ يجعل الطّير يصيد السّمك
من ذيله فالتقاطه بهذا الشّكل
ييسّر على الفرخ الصّغير
التقامه و أكله لأنّه يكون
مقدّما باتجاه ترتيب العظام,
أي أنّ التقامه لا يسبّب أيّ
خدش أو غصّ في بلعوم الفرخ,
وبالتّالي يتمّ التقامه وهضمه
بسهولة. ثمّ إنّ الطّريقة
التي يصيد بها الطّير السّمكة
تكشف كون الصّيد له أو
لأولاده, فإن كان المسك من
الذّيل فالطّعام للفرخ
الصّغير وإن كان من أي جزء
آخر من السّمكة فهذا يعني
أنّها طعام للبالغين و الكبار
(98).
المسافة الطّويلة التي يقطعها
طائر الغواكارو لجلب الغذاء
لصغاره
هذا النّوع من الطّيور يبني
عشّه في مكان مرتفع عن سطح
الأرض بمقدار 20 مترا. وفي
كلّ ليلة يخرج لجلب الفواكه
اللاّزمة لتغذية الصّغار
بمقدار خمس إلى ستّ مرات،
وعند عثوره على الفاكهة
المناسبة يسحب خلاصتها
اللّينة ثمّ يعدّها لتصبح
غذاء لذيذا للفراخ. وتخرج
أسرابٌ من هذا النّوع كلّ
ليلة للبحث عن الغذاء, وتقطع
مسافاتٍ طويلةً تربو على 25
كيلومترا. وهناك أنواع من
الحيوانات مثلها مثل طائر
الغواكارو تهيّئ الغذاء قبل
تقديمه إلى الصّغار, فطائر
مثل البليكان يقوم بإعداد ما
يشبه الحساء, أمّا طائر عقرب
الدقائق yelkovan فتقوم أنثاه
بخلط البلانكتون مع الأسماك
الصّغيرة لإعداد غذاء دسم
للصّغار، أمّا الحمام فيفرز
من بلعومه سائلا يعرف بـ"حليب
الحمام" و يكون غنيّا
بالبروتين والدّهن, ويختلف عن
حليب اللّبائن في أنّه يفرز
من قبل الذّكر والأنثى على
حدّ سواء.وهناك طيور تعد
لصغارها غذاءا مشابها للحليب
(100).
وتكون الفراخ الصّغيرة في
أمسّ الحاجة إلى رعاية
الأبوين، والشّيء الوحيد الذي
تفعله أنّها تفتح أفواهها و
تنتظر ما يجلبه لها الأبوان
من غذاء. ويسلك مثل هذا
السّلوك صغارُ طائر النّورس
الذي يتغذّى على سمك
الرّينكا, فالصّغار يركّزون
أفواههم في النّقطة الحمراء
الموجودة في منقار الأمّ.
أمّا فرخ طائر عَرعَر ard?ç
فعندما يشعر بحركة تنمّ عن
قدوم أحد الأبوين إلى العشّ
يمدّ عنقه بسرعة إلى الأعلى
انتظارا للغذاء بالرّغم من
أنّ عيونها لم تنفتح بعد. و
يكون الصّغار في هذه المرحلة
متميزين بهالة لمّاعة صفراء
اللّون حول المنقار كأنّما
تشير إلى مكان وضع الغذاء.
ويكون حيّز المنقار على درجة
كبيرة من الحساسيّة تساعده
على فتحه بعد أن يغلقه, و هذا
اللّون المختلف لمناقير صغار
الطّيور وحساسيتها له أهميّة
بالغة في عمليّة تغذية الكبار
لهؤلاء الصّغار خصوصا لدى
الطّيور التي تبني أعشاشها
داخل حفر مظلمة.
ومثال آخر في طير كوليديان
اسبينوزا الذي يبني عشّه داخل
شقوق مظلمة. ففرخ هذا الطّائر
يتميّز بكون منقاره يحتوي من
الخارج ومن كلا الجهتين على
نتوءين بارزين بلون أزرق و
أخضر يلمعان مع أوّل ضوء يدخل
العشّ, ويصبحان بذلك مصدرا
للضّوء داخل العش المظلم .
وهذا اللّون المختلف لا يعتبر
دليلا للأم للاهتداء إلى
صغارها داخل العش فقط و إنّما
يحمل معاني أخرى. فالاختلاف
في درجة اللّون يجعل الأمّ
تميز بين من تغذّى توّا ومن
مازال جائعا لم يتغذّ بعد.
فطائر الـ kenevir يكون ما
حول منقار صغيره الجائع أحمر
اللّون نتيجة تدفّق الدّم
للأوعية الدّموية الموجودة في
العنق, أمّا إذا تغذّى الفرخ
فإنّ معدته تحتاج إلى كميّة
أكبر من الدّم تسهّل عمليّة
الهضم. لذا فالفرخ الجائع هو
الذي يكون احمرار ما حول
منقاره بدرجة أكبر. وبهذه
الطّريقة يميّز الأبوان بين
الفراخ الجائعة و غير الجائعة
(101).
إنّ هذا الانسجام الكامل بين
المظهر الخارجي للطّير
والأنماط السّلوكية التي
يمارسها دليل واضح على وجود
خالق واحد للطبيعة والكائنات
الحية التي تعيش فيها بل خالق
واحد لكل شيء. والصّدفة لا
تستطيع أن تخلق هذا الانسجام
والتكامل الرائعين.
الدّجاج البرّيّ وحمله الماء
لسقي كتاكيته
إن الانسجام بين المظهر
الخارجي والبيئة التي يعيش
فيها الكائن الحيّ أمر مطردٌ
في كلّ الأحياء. ومثال آخر
لهذا الانسجام هو الدّجاج
البري. فهذا الطّير لا يملك
مكانا معيّنا يستقر فيه. وعند
اقتراب موسم التّبييض يضع هذا
الطّائر ثلاث بيضات في مكان
منعزل وسط الرّمال. وعند خروج
الفراخ من البيض يبدؤون على
الفور في البحث عن الغذاء
الذي يتألّف من البذور
النّباتية ,بيد أنّه ليس
لديهم القدرة للبحث عن الماء
نتيجة لأنّهم لا يستطيعون
الطّيران بعد. ومسؤولية جلب
الماء تقع على الذّكر. و بعض
أنواع الطّيور يجلب الماء
لصغاره في منقاره, إلاّ أنّ
ذكر الدّجاج البرّي يضطرّ إلى
جلب الماء من مسافة بعيدة
لذلك فهو يحتاج إلى شيء من
هذا الماء لإرواء عطشه نتيجة
هذه الرّحلة الطويلة و
الشّاقة. ولهذا الطّير طريقة
خاصّة وغريبة لحمل الماء
تتمثّل في أنّ الرّيش الذي
يغطّي صدر الطّائر وبطنه
متميّزا بطبقة ليفيّة من
الدّاخل. وعندما يصل الطّير
إلى مصدر الماء فإنّ أوّل ما
يفعله هو التّمسّح بالرّمل
بأسفل جسمه للتخلّص من الملمس
الدّهني للرّيش والذي يمنع
التّبلّل, ثمّ يقترب من ضفّة
الماء و يبدأ بإرواء عطشه
أوّلا ثمّ يلج في الماء رافعا
جناحيه وذنبه ومحرّكا جسمه
للأمام والخلف لتبليل ريشه
بأكبر كميّة ممكنة من الماء,
و تمثّل الطّبقية اللّيفيّة
للرّيش إسفنجاً يعمل على
امتصاص للماء. ويكون الماء
المحمول بواسطة الريش بعيدا
عن تأثير التبخّر ومع هذا
يتبخّر جزء منه في حالة
القيام برحلة أطول من 25
ميلا. وفي النهاية يصل الطير
إلى فراخه الذين مازالوا
يبحثون لهم عن طعام. وعند
رؤيتهم لأبيهم يسرعون نحوه،
وعندئذ يرفع الذّكر جسمه إلى
الأعلى ويبدأ الفراخ بمصّ
الماء الموجود في الرّيش في
وضعيّة أشبه برضاعة اللّبائن
لصغارها. وبعد انتهاء عمليّة
سقي الصّغار يمسح الذّكر جسمه
في الرّمل لتجفيف الرّيش.
ويستمر الذكر في إرواء
الصّغار طيلة شهرين حتى ينهي
الصّغار عملية إسقاط الزّغب
وتغييره مرّتين و تصبح لهم
القدرة على الاعتماد على
أنفسهم في إرواء عطشهم (102).
إنّ هذا السّلوك الغريب
للدّجاج البّري يثير في
أذهاننا تساؤلات عديدة، فإنّ
هذا الطير يعرف جيّدا كيفيّة
الاستفادة من خواصّ مظهره
الخارجي ومدى ملائمتها لظروف
البيئة التي يعيش فيها, هو
يفعل ذلك لأنّ مصدر سلوكه
العجيب هو الإلهام الإلهيّ
الذي منحه القدرة على التّصرف
وفق البيئة التي يعيش فيها.
الحشرات و تغذيتها لصغارها
تقوم أغلب أنواع الحشرات
بتغذية صغارها ويرقاتها. و
مثال على ذلك حشرة "الحفار"
التي تقوم بتغذية صغارها
(يرقاتها) الموجودة في الحفر
بواسطة البذور، وحشرة الأشجار
النطّاطة التي تضع يرقاتها في
شقوق حلزونيّة تحفرها تحت
قشرة الأشجار حيث ثمّ تغذّي
يرقاتها بالنّسغ النّازل من
الأوراق إلى لأسفل ويكون
مليئا بالموادّ الغذائيّة
الجاهزة. أمّا الأَرضةُ
فمهمّتها صعبةٌ جدًّا لأنّها
يجب أن تغذّي صغارها بالخشب
الصّلب المتيبّس والذي تقلّ
فيه نسبة النتروجين بدرجة
كبيرة. من جانب آخر هناك
كائنات حشريّة تقوم بتليين
الخشب أوّلا ثّم إعطاؤه
للصّغير كغذاء إذ تعمل على
التهام الخشب ثمّ هضمه بواسطة
العصارات الهاضمة حتى يصبح
ليّنا وعندئذ تتولّى الكائنات
الحية المجهريّة التي تعيش في
جهازها الهضمي عمليّة تفتيت
السّليلوز إلى جزئيات أصغر,
ثمّ تتقيأ الحشرة ما هضمته
وليّنته لتقديمه إلى الصّغير
في شكل غذاء جاهز. أما "أمّ
أربع وأربعين" الأشجار فتحفر
أنفاقا تحت قشرة الأشجار عن
طريق مضغها للخشب وتضع بيضها
في الأنفاق إلى جانب جلبها
لبعض أنواع الفطريّات التي
تستطيع تليين السليلوز ليصبح
غذاء جاهزا للصغار (105).
إنّ الله سبحانه وتعالى يرزق
مخلوقاته بطرق شتّى، والأمثلة
التي ذكرناها من الحشرات هي
من جملة هذه المخلوقات التي
يرزقها الله تعالى بفضله، فهو
يرزق صغار الحشرات بواسطة
كبارها و هو الذي هداها
سبلها, يقول الله تعالى :"
وكأيّن من دابّة لا تحمل
رزقها الله يرزقها وإيّاكم
وهو السّميع العليم " سورة
العنكبوت-الآية60.
نقل الكائنات الحيّة لصغارها
عموما يكون الصّغار مخلوقات
ضعيفة قليلة الحركة لذا
فإنّها تنقل من قبل الأبوين
من مكان إلى آخر عند الخطر أو
غيره, ولكلّ كائن حيّ طريقته
الخاصّة في نقل صغاره, فبعضها
تحمل صغارها على ظهورها
وبعضها في فمها والبعض الآخر
في تجاويف كيسيه في جناحيه,
وفي جميع الحالات يكون
الصّغار في مأمن وينقلون إلى
مكان آمن وسليم. ولعلّ نقل
الصّغار من قبل الأبوين في
حالة الخطر يعتبر مثالا جيّدا
على التّضحية من أجل الضعيف
لأنّ حمل الصّغير ونقله يؤدّي
إلى التّقليل من قدرة الأبوين
على المناورة. وبالرّغم من
جميع المخاطر يستمرّ الأبوان
في الدّفاع عن الصّغير.
والأسلوب الشّائع بين الأحياء
لحمل الصّغير هو الحمل على
الظهر، و المثال الجيّد على
ذلك هي القرود التي تحمل
صغارها أينما تشاء فوق
ظهورها، فأنثى القرد تستطيع
الحركة بحريّة وهي تحمل
صغيرها على ظهرها لأنّ القرد
الصغير يتمسك جيّدا بأمّه من
خلال إمساكه بالشّعر الكثيف
الذي يغطي جسم الأم. وعند
إحساسها بالخطر تتعلّق
بالأشجار بسهولة بالرّغم حتّى
و إن كان وليدها على ظهرها. و
تستطيع أن تقفز من شجرة إلى
أخرى. ومثال آخر هو حيوان
الكنغر فأنثاه مثل باقي
اللّبائن الكيسيّة تحمل
وليدها في كيس مغطّى بشعر
كثيف يقع أسفل بطنها. ويظل
الكنغر الصغير في هذا الكيس
حوالي خمسة أشهر وعند خروجه
من هذا الكيس يظلّ يلعب قريبا
من أمّه, وعند إحساسه بأيّ
خطر أو شيء غريب يرجع مسرعا
إلى هذا الكيس. وتستطيع
الأنثى أن تقفز بخطوات كبيرة
مسرعة بالرّغم من أنّ صغيرها
يكون محمولا بواسطة أرجلها
الخلفيّة القويّة.
وكذلك الناجب فهي تحمل صغارها
ولكن بأسنانها من بطن صغيرها
المتدلية. و ينقل هذا الحيوان
صغاره عندما تشعر الأنثى
بالخطر ووجوب تغيير مكان
المسكن, وتظلّ تحمل أولادها
واحدا تلو الآخر إلى المكان
الجديد. وعند اكتمال عملية
النقل ترجع إلى المكان القديم
للتأكّد من أنّ أحدا من
أبنائها لم يتخلف. و بالنّسبة
إلىصغار الفئران فإنّها تظلّ
ملتصقة بحلمة ثدي الأمّ
لساعات طوال. وعندما تحسّ
الأمّ بالخطر تبدأ في الهرب
ساحبة أولادها بين أرجلها
نتيجة التصاقهم الشّديد بحلمة
الثدي. وعند اكتمال عمليّة
النّقل ترجع إلى المكان
القديم لتتأكّد من كون أحد من
صغارها لم تخلف.
وتتميّز الخفافيش بأنّها تطير
اللّيل كلّه بحثا عن الغذاء
الذي يكون إمّا فاكهة أو
حشرات, وهي تحمل صغارها معها
أثناء طيرانها, و يكون
الخفّاش الجديد ماسكا بمخالبه
شعر أمّه وزارعا أنيابه
اللبنيّة بقوة في ثديها.
وتحمل طيور "دجاج الماء" و
"حدأة المستنقعات" إضافة إلى
طير ذو الرأس الأسود
ba?tankara صغارها بمناقيرها
عند الانتقال من مكان إلى
مكان آخر. أمّا الصّقر ذو
الذّنب الأحمر فيحمل صغاره
بمخالبه بنفس الطّريقة التي
يحمل بها الفريسة بعد أن
يصطادها. وتحمل الطّيور
الغواصّة صغارها على ظهورها
وعند إحساسها بالخطر تغوص في
الماء سابحة بينما يظل صغرها
على ظهرها. أمّا الضّفادع
فتحمل صغارها أو بيضها على
ظهورها, فالضّفادع البرّية
والاستوائيّة تستطيع أن تقفز
وصغارها على ظهورها وأن تتنقل
إلى المكان الذي تراه مناسبا.
والمثال الأغرب هو بعض أنواع
السمك الذي يحمل صغاره في فمه
أثناء نقلهم إلى مكان آمن ،
فالسمك الشوكي يظل ذكره يحوم
حول العش الذي بناه بين
الأعشاب المائية حراسة له وإن
حدث أن ابتعد أحد الصغار
الخارجين حديثا من البيض
يلتقم الذكر هذا الصغير
الشارد في فمه ويعيده إلى
العش ثانية.
وبالنسبة للنمل فتقوم
العاملات بحمل البيض واليرقات
من غرفة إلى أخرى داخل الخلية
بواسطة فمها ، حيث تقوم
العاملات كل صباح بحمل
اليرقات باتجاه ضوء الشمس من
مكان لأخر في قمة الخلية ،
وفي المساء تبدأ العاملات
بحمل اليرقات إلى الأجزاء
السفلية من الخلية والتي سخنت
نتيجة ضوء النهار والحاوية
على غرف خاصة لرعاية اليرقات
، وتكون مداخل هذه الغرف
مقفلة لمنع دخول الهواء
البارد في الليل وفي الصباح
يتم فتحها لحمل اليرقات إلى
قمة الخلية مرة أخرى .
وإذا هوجمت الخلية من قبل
الأعداء فتفعل العاملات ما
بوسعها من أجل حماية اليرقات
،وقسم من النمل يبدأ هجومه
على الأعداء في المنطقة التي
يتواجدون فيها والقسم الآخر
يذهب إلى الغرف الخاصة التي
تحتوي على اليرقات لحراستها
من أي مكره حيث تقوم النحلة
العاملة بأخذ اليرقة بين
فكيها وتذهب بها إلى مكان
بعيد عن ميدان المعركة حتى
ينجلي الموقف أو يخرج العدو
من المستعمرة (107).
ومن هذا العرض للأمثلة
المختلفة يتبين لنا أن
الكائنات الحية سواء كانت
أسودا أو حشرات ضفادع كانت أو
طيور فكلها تحمي صغارها بشكل
أو بآخر بواسطة الحمل أو
النقل إلى مكان أمين وهذا
يعني أنها ذات سلوك يتسم
بالمخاطرة وتحمل المكاره من
أجل الصغار ، إذن كيف يمكن
لنا أن نفسر مصدر هذا السلوك
؟ ويتضح من الأمثلة السابقة
أن الكائنات الحية تتحمل
مسؤولية تنشئة صغارها حتى
بلوغها مرحلة الاعتماد على
النفس ، وحتى تلك الفترة
فإنها تلبي كافة احتياجاتها
دون نقص أو كلل ، ونستطيع أن
نشاهد أمثلة أخرى عديدة غير
التي ذكرناها في الطبيعة .
وتتجلى أمامنا الحقيقة مرة
أخرى ، ألا وهي إن كافة
الكائنات الحية تحيا برحمة
الله تعالى، حيث يلهمها عز
وجل كل منها سلوكها وكيفية
معيشتها وهي تستجب لهذا
الإلهام الإلهي ، وكل كائن حي
يخضع وينقاد للإرادة الإلهية
حسب ما ورد في القرآن الكريم
:
قال الله تعالى : "و له من في
السماوات والأرض كل له قانتون
" صدق الله العظيم. سورة
الروم-الآية 26
التعاون والتّكافل بين
الكائنات الحيّة
في الأمثلة السابقة تناولنا
موضوع اهتمام ورعاية الكائنات
الحية لصغارها والرأفة
والرحمة التي يتسم بها سلوكها
إضافة إلى التضحية والتفاني
التي يبديها تجاه صغارها ،
ولكن هناك أمثلة في الطبيعة
على التعاون والتكافل بين
الأنواع المختلفة للأحياء
والتي يمكن رصدها كثيرا، ومن
المعروف أن الكائنات الحية
التي تعيش على شكل مجامع أو
مستعمرات تملك مقومات البقاء
والديمومة أكثر من التي تعيش
على شكل أفراد ، إن العيش ضمن
مجامع أو عوائل يفند مزاعم
دعاة التطور التي تنص على كون
الطبيعة ميدانا للحرب من أجل
البقاء ، وغالبا ما تكون
الأحياء في تعاون مثمر فيما
بينها بدلا من التنافس حيث
تستفيد من ذلك في تحقيق تبادل
منفعة أو الاستناد على مبدأ
نكران الذات .
ودعاة "التطور" يرون بأعينهم
هذه الحقائق ولكنهم دوما
يحولون تفسيرها ضمن مفاهيمهم
التي يدعون إليها ، وعلى سبيل
المثال أجرى أحدهم أبحاثا في
هذا المجال ويدعى " بيتر
كرويوتكين " في المناطق
الشرقية من سيبيريا وفي
منثوريا وسجل مشاداته عن
التعاون بين الكائنات الحية
وألّف كتابا عن هذا الموضوع ،
ويقول هذا الباحث في كتابه عن
التعاون بين الأحياء ما يلي :
عندما بدأنا نجري بحثا عن
الموضوع " البقاء من أجل
الحياة " فوجئنا بوجود أمثلة
عديدة عن التعاون والتكافل
بين الكائنات الحية ، و ظهرت
أمامنا حقيقة واضحة وهي أن
التعاون ليس فقط من أجل إدامة
النسل بل من أجل سلامة
الأفراد وتوفير الغذاء لهم
وهذه الحقيقة يقبلها المؤمنون
بنظرية "التطور" وإن هذا
التعاون وتبادل المنفعة
يعتبران كقاعدة عامة في عالم
الإحياء ، وإن هذا التعاون
المتبادل يمكن رؤيته في أدنى
حلقة من سلسلة الأحياء
.(108).
أمام هذه الأمثلة الحية ما
كان من مؤمن بنظرية التطور
كـ"كروبوتكين" إلا أن يبدي
مثل التعليق الذي ينافي
فرضيات هذه النظرية ، وكما
سيتبين لنا من الأمثلة التي
سنذكرها في الصفحات المقبلة
أن التعاون المتبادل بين
الأحياء بأنواعها المختلفة
مهم جدا في توفير الغذاء
والأمن لها ، وإن هذا التوازن
والنظام في الطبيعة دليل واضح
على قدرة الله الخلاق العليم
، وكل من شاهد هذه الأمثلة
الحية في الطبيعة يقف حائرا
ومندهشا من هذا السلوك العاقل
المستند على مشاعر حساسة الذي
يسلكه حيوان غير عاقل وعديم
المشاعر أيضا ، ومن الذين
شاهدوا وبحثوا هذه الأمثلة
الحية عالم باحث في الطب
والفيزيولوجي يدعى " كينيث
ووكر " حيث سجل مشاهداته في
رحلة صيد في شرق إفريقيا كما
يلي :
هناك أمثلة عديدة للتعاون
المتبادل بين الحيوانات
مازالت حية في ذاكري عندما
رأيتها في رحلة صيد قمت بها
في شرق إفريقيا قبل سنوات ،
وشاهدت بأم عيني كيف أن قطعان
من الغزلان والحمير الوحشية
تتعاون فيما بينها في سهول
"آهتي" حيث يضعون من يترصد
العدو القادم لينبه القطيع
حين قدومه ، ولم أكن خارجا
لصيد الحمار الوحشي ولكني
فشلت في اصطياد غزال واحد،
لأنني كلما اقتربت من غزال
لاصطياده ينبه الحمار الوحشي
القطيع بقدومي وبذلك يفلت مني
، ووجدت هناك تعاونا بين
الزرافة والفيل فالفيل لديه
حاسة سمع قوية وآذانه الواسعة
تعتبر رادارا لاقطا لأي صوت
مقابل حاسة بصر ضعيفة ، أما
الزرافة فلها حاسة بصر قوية
وتعتبر كمراصد مرتفعة
للمراقبة ، وعندما تتحد جهود
الفريقين لا يغلبان لا من نظر
ولا من سمع و لا يمكن
الاقتراب من قطعانهما والمثال
الأغرب هو التعاون بين وحيد
القرن ( الخرطيط) والطير الذي
يحط على ظهره لالتقاط
الطفيليات الموجودة على جلده
، فكلما تحس الطيور باقترابي
تبدأ بإخراج صوتا معين تنبه
به وحيد القرن باقترابي
وعندما يبدأ الحيوان بالهرب
تبقى الطيور على ظهره كأنها
راكبة عربة قطار تهتز
باهتزازه (109).
ومشاهدات "كينيث ووكر" ما هي
إلا جزء يسير من أمثلة عديدة
يمكن لنا أن نشاهدها على
التعاون المتبادل بين الأحياء
، ويمكن للإنسان أن يجد أمثلة
لهذا التعاون بين الحيوانات
التي تعيش بالقرب منه ،
والمهم أن يتفكر الإنسان في
ماهية هذه الأمثلة .
هل هناك معنى لسلوك كائن حي
بهذا التفاني والإيثار خصوصا
أن الكائن الحي يفترض أنه جاء
إلى هذه الحياة بالصدفة ؟
وبمعنى آخر هل يمكن لنا أن
نتوقع مثل هذا السلوك المنطقي
من مثل هذا الكائن الحي ؟
بالطبع لأنه لا يمكن لمخلوق
غير عاقل نشأ بالصدفة أن يبد
سلوكا عاقلا ، ولا يمكن له أن
يفكر بحماية الآخرين ، ولا
يمكن تفسير الأنماط السلوكية
لهذه الكائنات إلاّ بشيء واحد
وهو الإلهام الإلهي. وفي
الأمثلة القادمة سيتضح لنا
بدليل ساطع أن هذه الكائنات
الحية تخضع للإلهام الذي
يوجهها.
تنبيه الكائنات الحية بعضها
البعض بالخطر القادم
من أهم فوائد العيش ضمن
تجمعات هو التنبيه للخطر
القادم وتوفير وسائل الدفاع
بصورة أكثر فاعلية ، لأن
الحيوانات التي تعيش ضمن
تجمعات تقوم عند إحساسها
بالخطر القادم بتنبيه الباقين
بدلا من الهرب والنجاة ، ولكل
نوع من أنواع الأحياء طريقته
الخاصة بالتنبيه بالخطر، على
سبيل المثال الأرانب والأيل
يقومان برفع ذيولها بصورة
قائمة عند قدوم العدو المفترس
كوسيلة لتنبيه باقي أفراد
القطيع ، أما الغزلان فتقوم
بآداء رقصة على شكل قفزات
(110).
أما الطيور الصغيرة فتقوم
بإصدار أصواتا خاصة عند قدوم
الخطر ، فطيور " "san?sa?ma
تقوم بإصدار أصوات ذات ترددات
عالية مع فواصل متقطعة ، وأذن
الإنسان تتحسس هذا النوع من
الصوت على شكل صفير وأهم ميزة
لهذا الصوت هي عدم معرفة
مصدره (111). وهذا لصالح
الطير المنبه بالطبع ، لأن
الخطورة تكمن في معرفة مكان
الطير الذي يقوم بوظيفة
التنبيه بالخطر وتقل نسبة
الخطورة لعد معرفة هذا الصوت
.
أما الحشرات التي تعيش ضمن
مستعمرات فوظيفة التنبيه
والإنذار تقع على عاتق أول
فرد يرى ويحس بالخطر ، إلا من
المحتمل أن تكون رائحة المادة
التي يفرزها هذا الفرد كوسيلة
إنذار قد يحس بها العدو
القادم لذا فإنه يضحي بحياته
من أجل سلامة المستعمرة
(112).
أما الكلاب البرية فتعيش ضمن
مجامع يربو عددها على 30 فردا
وعلى شكل مساكن شبيه بمدينة
صغيرة ، والأفراد يعرفون
بعضهم بعضا في هذه المستعمرة
، وهناك دائما حراس مناوبون
في مداخل هذه المدينة الصغيرة
ويقفون على أطرافهم الخلفية
مراقبين البيئة من جميع
الجهات وإذا حدث أن أحد
المراقبين رأى عددا يقترب
فيبدأ من فوره بنباح متصل
شبيه بصوت الصفير، ويقوم باقي
الحراس بتأكيد هذا الخبر
بواسطة النباح أيضا وعندئذ
تكون قد علمت بقدوم الخطر
ودخلت مرحلة الاستعداد
للمجابهة (113).
وهنا نقطة مهمة ينبغي التأكيد
عليها ، فتنبيه الكائنات
الحية عند قدوم الخطر مسألة
تثير الاهتمام والفضول ،
والأهم من ذلك أن هذه
الكائنات تفهم بعضها البعض ،
والأمثلة التي أوردناها أعلاه
مثلا الأرنب الذي يرفع ذيله
عند إحساسه بالخطر فهذه
العلامة يفهمها باقي
الحيوانات ويدخلون مرحلة
التيقظ على هذا الأساس ، حيث
يبتعدون أن وجب الأمر
الابتعاد أو يختفون إن كان
هناك مجال للاختفاء ، والأمر
المثير للاهتمام هو :أن هذه
الحيوانات متفقة فيما بينها
مسبقا على هذه الإشارات بحيث
تكون بإشارة واحدة متنبهة
بقدوم الخطر ، إلاّ أن هذا
الافتراض لايمكن أن يكون
مقبولا من أي إنسان ذو تفكير
ومنطق ، إذن فالأمر المحتم
قبوله هو أن هذه الكائنات
الحية مخلوقة من قبل خالق
واحد وتتحرك وفق إلهامه
وتوجيهه .
أما المثال المتعلق بالصغير
الذي يطلقه الطير عند إحساسه
بالخطر وفهمه من قبل وحيد
القرن ، وهنا يظهر أمامنا
سلوك عاقل ومنطقي يثير الحيرة
فينا ، فمن غير الممكن أن
تفكر حيوانات غير عاقلة
بتنبيه باقي الحيوانات بقدوم
الخطر وتكون تلك الحيوانات قد
فهمت الإشارة واستوعبتها،
وهنا يبرز أمامنا تفسير واحد
لسلوك حيوان غير عاقل بهذه
الصورة المنطقية وهو : كون
هذه الحيوانات قد اكتسبت هذه
القابليات والأنماط السلوكية
، وإن الذي خلقها وسواها وهو
الله الخلاق العلم الذي
يتغمدها برحمته الواسعة .
مجابهة الأحياء للخطر
جماعيّا.
لا تكتفي الحيوانات التي تعيش
على شكل مجامع بإنذار بعضها
البعض بقدوم الخطر بل تشارك
أيضا بمجابهته ، مثلا الطيور
الصغيرة ، تقوم بمحاصرة الصقر
أو البوم الذي يتجرأ أو يتجرأ
ويدخل مساكنها ، وفي تلك
الأثناء تقوم بطلب المساعدة
من الطيور الموجودة في تلك
المنطقة ، وهذا الهجوم
الجماعي الذي تقوم به هذه
الطيور الصغيرة يكفي لإضافة
وطرد الطيور المفترسة (114).
ويشكل السرب الذي تطير ضمنه
الطيور خير وسيلة للدفاع ،
فالسرب الذي يطير ضمنه
الزرزور يتركون بينهم مسافات
طويلة أثناء الطيران وإذا
رأوا طائرا مفترسا يقترب
كالصقر فسرعان ما يقللون ما
بينهم من مسافات مقتربين من
بعضهم البعض بتلك يقللون من
إمكانية اقتحام الصقر للسرب
وإذا أمكن له ذلك فسيجد
مقاومة شديدة وربما يصاب
بجروح بجناحيه ويعجز عن الصيد
(115).
واللبائن تتصرف على هذه
الشاكلة أيضا خصوصا إذا كانت
تعيش ضمن قطعان ، ومثال على
ذلك الحمار الوحشي حيث يدفع
بصغاره نحو أواسط القطيع
أثناء هربه من العدو المفترس
، وهذه الحالة درسها جيدا
العالم البريطاني "جون كودول"
في شرق إفريقيا حيث سجل في
مشاهداته كيف أن ثلاثة من
الحمير الوحشية تخلفت عن
القطيع وحوصرت من قبل
الحيوانات المفترسة وعندما
أحس القطيع بذلك سرعان ما قفل
راجعا مهاجما الحيوانات
المفترسة بحوافرها وأسنانها
ونجح القطيع مجتمعا في إخافة
هؤلاء الأعداء وطردها من
المكان (116).
و عموما فإن قطيع الحمير
الوحشية عندما يتعرض للخطر
يظل زعيم القطيع متخلفا عن
باقي الإناث والصغار الهاربين
، ويبدأ الذكر يجري بصورة
ملتوية موجها ركلات قوية إلى
عدوه وحتى أنه يرجع ليقاتل
عدوه (117).
ويعيش "الدولفين"ضمن جماعات
تسبح سويا وتقوم بمهاجمة
عدوها اللدود { الكواسج }
بصورة جماعية أيضا ، وعندما
يقترب الكوسج من هذه الجماعة
يشكل خطرا جسيما على صغار
الدولفين حيث يبتعد اثنين من
الدولفين عن الجماعة ليلفتا
انتباه الكوسج إليهما
ويبعدانه عن الجماعة ، وعندئذ
تنتهز الجماعة تلك الفرصة في
الهجوم فجأة وتوجيه الضربات
تلو الضربات على هذا العدو
المفترس (118).
وتسلك سلوكا غريبا آخر حيث
أنها تسبح بموازاة جماعات سمك
" التونة " التي تشكل مصدرا
غذائيا مهما لها ، لهذا السبب
فإن صيادي سمك " التونة "
يتخذون الدولفين دليلا لهم في
اصطياد هذا النوع من السمك
ولسوء الحظ هناك حالات كثيرة
يتم فيها وقوع الدولفين في
شباك الصيادين ولكون هذا
الحيوان لينا غير قادر على
السفر تحت الماء فسرعان ما
يصاب بالهلع ويبدأ بالوقوع
نحو قاع الماء ، وفي تلك
الأثناء يبدأ باقي الدلافين
بنجدة زميلهم وهذا دليل على
الترابط العائلي الموجود في
الجماعة ، ويبدأ كافة أفراد
الجماعة بالنزول إلى الأسفل
ومحاولة دفع الشباك إلى
الأعلى لإنقاذ حياة زميلهم ،
ولكن هذه المحاولات كثيرا ما
تبوء بالفشل والموت للكثير
منهم لعدم قدرتهم على التنفس
تحت الماء ، وهذه السلوك عام
لكافة أنواع الدولفين (119).
أما الحيتان الرمادية فيتسابق
ذكرا أو اثنين منها لنجدة
أنثى مصابة بجروح عن طريق
دفعها نحو سطح الماء لتسهيل
تنفسها وكذلك حمايتها من
هجمات الحوت القاتل (120).
ويقوم ثيران المسك بتشكيل
دائرة فيما بينها تجاه العدو
المفترس ، حيث تخطوا خطوات
للوراء دون أن تجعل ظهرها نحو
العدو ، والهدف هو حماية
الصغار الذين يبقون داخل هذه
الدائرة متمسكين بشعر أمهاتهم
المتدلي الطويل ، وبهذا الشكل
الدائري تنجح الثيران البالغة
في المحافظة على حياة الثيران
الصغيرة ، وعندما يهجم أحد
أفراد هذه الدائرة على هذا
العدو سرعان ما يرجع إلى نفس
موقعه في الدائرة كي لا يتخلل
النظام الأمني (121).
وهناك أمثلة أخرى تتبعها
الحيوانات أثناء الصيد شبيهة
بسلوكها أثناء الحماية
والدفاع عن النفس فالبجع يقوم
بصيد السمك بصورة جماعية ،
حيث تشكل نصف دائرة قريبة من
الضفة وتضيق من هذه الدائرة
شيئا فشيئا ومن ثم تبدأ بصيد
الأسماك المحاصرة في هذه
المياه الضحلة ، وينقسم البجع
في الأنهار الضيقة والقنوات
إلى مجموعتين ، وعندما يحل
المساء تنسحب هذه الطيور إلى
مكان تستريح فيه ولا يمكن أن
ترى متشاحنة أو متعاركة فيما
بينها سواء في الخلجان أو في
أماكن استراحتها (122).
هذه الأنماط السلوكية التي
تبديها الحيوانات من تعاون
وتكاتف وتكافل وتضحية تثير
أسئلة عديدة في مخيلة الإنسان
، لأن الحديث يدور عن مخلوقات
غير عاقلة ليس عن أناس ذوي
عقل ودراية أي أن الحديث يدور
عن حمير وحشية أو طيور أو
حشرات أو الدلافين وغيرها.
ولا يمكن للإنسان العاقل أن
يفترض أرضية منطقية وعاقلة
كتفسير لسلوك هذه الحيوانات ،
والتفسير الوحيد الذي يمكن
للإنسان العاقل أن يتوصل إليه
أمام هذه الأمثلة هو : أن
الطبيعة ومحتوياتها ما هي إلا
مخلوقات خلقها خالق واحد قدير
لا حد لقدرته ، وهذا الخالق
هو الذي خلق كافة الأحياء من
إنسان أو حيوان أو حشرة أو
نبات وخلق كل شيء حي أو غير
حي وهو الله البارئ المصور ذو
القدرة والرحمة والرأفة
والحكمة ، وكما ورد في القرآن
الكريم :
"سورة الجاثية الآية 36-37"
قوله تعالى : {فلله الحمد رب
السماوات ورب الأرض رب
العالمين (36) وله الكبرياء
في السماوات والأرض وهو
العزيز الحكيم (37) } صدق
الله العظيم
سورة ص الآية 66 يقول تعالى :
{ رب السماوات والأرض و ما
بينهما العزيز الغفار} صدق
الله العظيم .
التكاتف والتعاون بين طيور
إفريقيا
تعيش طيور إفريقيا على شكل
جماعات متعاونة ومتناسقة في
أروع صورة ممكنة ، ومصدرها
الغذائي يتشكل من الفواكه
التي تحملها أغصان الأشجار
التي تعيش عليها ، وللوهلة
الأولى تبدو لنا عملية التغذي
على الفواكه التي توجد في قمة
الأغصان غاية في الصعوبة ،
لسببين أولهما عدم إمكان
الوصول للفاكهة الموجودة في
قمة الأغصان وأطرافها من قبل
الطيور البعيدة عنها وثانيهما
شحة المكان الذي يمكن للطير
أن يحط عليه فوق الشجرة
فالمتوقع لهذا الطير أن يعاني
من الجوع حتما ، ولكن الحقيقة
والواقع عكس ذلك تماما .
تتحرك هذه الطيور الإفريقية
نحو أغصان الأشجار وكأنها
متفقة فيما بينها مسبقا على
أن تكون حركتها بالتناوب حيث
تتراص بينها على غصن الشجرة ،
ويبدأ الطير الأقرب إلى
الفاكهة يتناولها ويأخذ حصته
منها ومن ثم يناولها إلى الذي
بجانبه وهكذا تتجول الفاكهة
من فم إلى آخر حتى أبعد طير
على غصن الشجرة وبذلك تتشارك
الطيور في التغذية ، ويثار
هنا تساؤلا مفاده كيف أمكن
لهذه الحيوانات غير العاقلة
أن تتصرف وفق هذه التضحية
والتعاون فيما بينها وكيف لا
يفكر الطير الأقرب إلى
الفاكهة بالاستحواذ عليها
دونا على الباقين ، ومن أين
أتى هذا النظام والانتظام في
التغذية بين هذه الطيور في
تطبيق لا نظير له في الإحياء
، علما أن لا أحد من هذه
الطيور يسلك سلوكا من شأنه أن
يخلخل النظام على غصن الشجرة
مع هذا لا يشبع العدد المتوقف
على غصن الشجرة في المرة
الواحدة لعدم كفاية الفاكهة
الملتقطة والموجودة على غصن
تلك الشجرة ، لذلك تقوم هذه
الطيور في الوقوف على غصن آخر
مليء بالفاكهة ولكن هذه المرة
يكون الطير الأكثر جوعا
والأبعد عن الفاكهة في المرة
الماضية الأقرب إلى الفاكهة
وتبدأ دورة التغذية من جديد
وفق نظام يتم بالعدالة والدقة
(123).
الحيوانات المتعاونة عند
الولادة
تكون الحيوانات وخصوصا
اللبائن أكثر تعرضا للخطر
أثناء الولادة ، لأن الأم
ووليدها يكونان لقمة سائغة
للحيوانات المفترسة ، ولكن
الملاحظ أن هذه الحيوانات
تكون بحماية أحد أفراد القطيع
عندما تضع وليدها ، على سبيل
المثال تختار أنثى الانتيلوب
مكانا أمينا بين الأعشاب
الطويلة لتضع وليدها ولا تكون
وحدها أثناء الولادة حيث تكون
بجانبها أنثى أخرى من نفس
القطيع كي تساعدها حين الحاجة
.
وهناك مثال آخر للتعاون بين
الحيوانات أثناء الولادة وهو
" الدولفين" فالوليد الصغير
عندما عندما يخرج توا من رحم
أمه عليه أن يخرج لسطح الماء
للتنفس ، لذلك تدفعه أمه
بأنفها إلى أعلى كي يستطيع
التنفس ، وتكون الأم ثقيلة
الحركة قبل الولادة ، ويقترب
منها أنثيين من نفس الجماعة
لمساعدتها لحظة الولادة ،
وتكون هذه المساعدان تسبحان
إلى جانبي الأم لحظة الولادة
لمنع أي ضرر يلحق بها في تلك
اللحظة الحرجة ، خصوصا أن
الأم تكون ثقيلة الحركة
ومعرضة للخطر أكثر وقت مضى .
ويكون الوليد الجديد لصيقا
بأمه طيلة الأسبوعين الأولين
، ويبدأ السباحة شيئا فشيئا
بعد ولادته بفترة قصيرة
وتدريجيا يبدأ بالاستقلال عن
أمه ، وتكون الأم في هذه
الحالة ضعيفة بعض الشيء ولا
تستطيع أن تتأقلم مع حركات
الولي الجيد لذا فتتدخل أنثى
أخرى لحماية الصغير وتوفير
العون الكامل للأم حتى تلتقط
أنفاسها (124).
وعلى نفس الأسلوب تلد الفيلة
أولادها ، حيث تكون أنثى دوما
لمساعدة الأم أثناء الولادة ،
حيث تختفي الأم ووصيفتها داخل
الأعشاب الطويلة بكل مهارة
حتى تنتهي عملية الولادة
وتستمران في رعاية الفيل
الجديد طيلة حياتهما ، وتتميز
الفيل الأم بحساسية مفرطة
خصوصا عندما تكون بجانب
وليدها (125).
وهناك أسئلة عديدة تطرح نفسها
في هذا المجال مثلا كيف
تتفاهم الفيلة أو غيرها من
الحيوانات مع بعضها أو الأنثى
التي تصبح مساعدة كيف تفهم أو
تشعر باقتراب موعد الولادة
لقريبتها ؟
وهذه الحيوانات لا تمتلك عقلا
مفكرا أو إرادة فاعلة لتحديد
هذه الأمور الحياتية ، إضافة
إلى أن هذه الفيلة السالفة
الذكر تسلك نفس السلوك في أية
بقعة أخرى في العالم ، ونفس
الشيء يقال للدولفين أو غيره
من الحيوانات ، وهذا دليل على
كونها مخلوقة من قبل خالق
واحد يتغمدها برحمته وعلمه
الواسعين أينما كانوا .
الحيوانات الحاضنة لصغار
غيرها من الحيوانات
تمتاز اللبائن بأنها تنشأ
علاقات قرابة وطيدة فيما
بينها ، على سبيل المثال
الذئاب تعيش ضمن عائلة واحدة
تتألف من ذكر وأنثى وصغيرهما
وربما واحد أو اثنين من
ولادات سابقة ، وكل الحيوانات
البالغة تقوم بمهمة حماية
الصغار ، وأحيانا تبقى إحدى
الإناث في الوكر لتقويم بمهمة
الحاضن لأحد الصغار طول الليل
بينما تقوم الأم بالخروج إلى
الصيد مع باقي أفراد الجماعة
.
تعيش كلاب الصيد الإفريقية
ضمن جماعات تتألف الواحدة
منها من عشرة أفراد ، وتبدأ
توزيع الواجبات بين الذكور و
الإناث والتي تتلخص بحماية
الصغار وتغذيتهم ، وتتسابق
فيما بينها على رعاية الصغار
، وعند اصطيادها لفريسة تقوم
بتشكيل حلقة حولها لحمايتها
من هجوم الضباع ولإفساح
المجال للصغار بالتغذي عليها
(126).
ويعيش " البابون " أيضا ضمن
جماعة يقوم زعيمها برعاية
المرضى والجرحى من أفرادها ،
حتى أن البالغين قد يتبنون "
بابون " صغير في حالة فقدانه
لأبويه ، حيث يأذنون له
بالسير معهم نهارا والمبيت
عندهم ليلا ، وقد تغير
الجماعة مكانها عندئذ تقوم
الأم بالمسك من يد صغيرها
ليمشي الهويدا في حالة كونه
صغيرا جدا لا تستطيع أن تضبط
توازنه أثناء حملها له ،
والصغير قد يتعب أثناء سيره
ويتسلق ظهر أمه غالبا ، وهذا
يؤدي إلى تقهقرهم عن الجماعة
، ولو فطن زعيم الجماعة لهذا
الأمر يقفل راجعا إلى حيث تقف
الأم ويبدأ بمرافقتهم أثناء
المسير (127).
أما أبناء آوى فتعيش مع
أمهاتها حتى بعد انقطاعها عن
الرضاعة وتصبح يافعة تساعد
أمها عند ولادتها لرضيع جديد
، حيث تجلب الغذاء للصغار أو
تذهب بهم إلى مكان بعيد لحين
ابتعاد الخطر الداهم (128).
وليس أبناء آوى وحدهم الذين
يهتمون برعاية أشقائهم بل
تقوم بنفس المهمة طيور مثل
دجاج الماء و السنونو حيث
تقوم صغارها في الأعشاش
القديمة بمعاونة أشقائهم في
الأعشاش الحديثة .
والتعاون في عالم الطيور يتخذ
شكلا آخر لأنه يكون بين أزواج
الطيور مثل طير النحل حيث
يتعاون الزوجان في تنشئة
أطفالهما وهذا التعاون من
الممكن مشاهدته لدى الطيور
بكثرة (129).
وهذه الرعاية التي تبديها
الحيوانات تجاه صغار لا تعود
إليهم تعتبر من الأدلة القوية
لنسف مزاعم دعاة " التطور " ،
وكما أسلفنا القول فإن
المؤمنين بنظرية "التطور"
يفسرون سلوك الحيوانات المتسم
بالتضحية على كونها ليست
تضحية بل أنانية لأنها تهدف
إلى الحفاظ على الجينات
الوراثية ونقلها إلى أجيال
لاحقة فقط .
ولكن اتضح من الأمثلة السالفة
أن هذه الحيوانات لا تبد
اهتمام ورعاية لأبناءها من
حملة جيناتها فقط وإنما تجاه
حيوانات لا تحمل أية جينات
منها أصلا بمنتهى الرأفة
والرحمة والشفقة ، أي أن هذه
الفرضية فرضية "الجين
الأناني" التي ساقها المؤمنون
بنظرية " التطور" قد أفلست
تماما وثبت عدم صحتها بالمرة.
ومن المستحيل ان يفكر حيوان
غير عاقل بنقل جيناتها إلى
جيل لاحق. ولو قبلنا أن تكون
هذه الحيوانات مبرمجة على
عملية نقل الجينات فيجب علينا
أن نقبل وجود مبرمج لهذا
البرنامج. وكلّ حيوان نصادفه
في الطبيعة وندرس طبائعه
وخصائصه يقودنا الى الى خالق
واحد لهذا الوجود .وهذا
الخالق بلا شك هو الله الرحمن
الرّحيم.
التضحية الموجودة في
المستعمرات
تعيش كائنات مثل النحل والنمل
و النمل الأبيض ضمن تشكيلات
اجتماعية يتم بناؤها بانتظام
وطاعة وتوزيع الواجبات إضافة
الى التضامن والتضحية .وهذه
الأحياء الصغيرة تبذل كل
جهدها ووقتها في سبيل الحفاظ
على سلامة اليرقات منذ لحظة
خروجها من البيض وعلى سلامة
المستعمرة وتأمين غذاءها. و
تتقاسم غذاءها فيما بينها
وتقوم بتنظيف المكان الذي
تتواجد فيه وإذا اقتضى الأمر
تضحي نفسها من أجلها غيرها.
والكل يعرف ما عليه أن يفعله
ة ويحرص على فعل ما بوسعه على
بأكمل وجه .وكل واحد منها
يهتم بالمستعمرة واليرقات
الضعيفة وهذان الهدفان من
الأولويات المهمة لديها. ولا
يمكن لنا أن نشاهد ضمن
أنماطها السلوكية أي دليل على
أنانيتها البتة.وهذا بلا شك
سبب نجاح هذه الأحياء في
الحياة ضمن مستعمرة ملؤها
النظام والانتظام.
ويحدثنا بيتر كرو بوتكين عن
مدى النجاح الذي يتوصل إليه
النحل و النمل اللأبيض ضمن
العيش في مستعمرة يتسم كيانها
بالتعاون المتبادل كما يلي :
لو تصورنا المستعمرات التي
ينشئها النحل أو النمل
اللأبيض بمقياس المنازل التي
ينشئها بني الإنسان لكانت هذه
المستعمرات متطورة للغاية في
أسلوب بنائها وادارتها لانها
تتالف من طرق معبدة ومخازن
مهياة للاستهلاك عند الحاجة
وصالات فسيحة اضافة الىمخازن
للحبوب ومساحات اخرىلجعلها
مخزنا للحبوب وتستخدم في هذه
المستعمرات مختلف الوسائل
لرعاية البيض واليرقات
.وأخيرا المجهود الضخم الذي
تبذله في حياة المستعمرة كل
ذلك دليل على التضحية و
التعاون المتميزين في كل خطوة
من خطوات العمل 130.
في هذا الباب سنذكر بالتفصيل
التعاون والتضحية في مستعمرة
النحل وخليته.
معالم التضحية في مستعمرة
النمل
من أهم معالم الميزة لمستعمرة
النمل المشاركة في الغذاء .
فإذا تقابلت نملتان وكانت
إحداهما جائعة أو عطشى
والأخرى تملك شيئا في بلعومها
لم يمضغ بعد فان الجائعة تطلب
شيئا من الأخرى التي لا ترد
الطلب أبدا وتشاركها في الأكل
والشرب .وتقوم النملات
العاملات بتغذية اليرقات
بالغذاء الموجود في بلعومها
.وفي أغلب الأحيان تكون كريمة
مع غيرها وبخيلة مع نفسها
يشأن الغذاء131.
2. هناك توزيع في أداء
الواجبات ضمن المستعمرة
الواحدة وكل نملة تؤدي ما
عليها من واجب بكل تفاني
وإخلاص .وإحدى هذه النملات هي
البوابة او حارسة الباب .وهي
المسؤولة عن السماح بدخول
النمل من أبناء المستعمرة فقط
ولا يسمح للغرباء بالدخول
أبدا وتكون رؤوس هذه الحارسات
بحجم بوابة المستعمرة فتستطيع
أن تسد هذه البوابة برأسها.
وتظل الحارسات طيلة اليوم
يقمن بواجبهن وهو حراسة مدخل
المستعمرة 132 لذلك فان أول
من يجابه الخطر هؤلاء
الحارسات.
3. لا تكتفي النملات بمشاركة
أخواتها بالطعام الذي تحمله
في معدتها بل تقوم بتنبيه
الباقيات الى وجد طعام أو كلإ
في مكامن ما صادفته .وهذا
السلوك لا يحمل في طياته أي
معنى للأنانية. وأول نملة
تكشف الغذاء تقوم بملء
بلعومها منه ثم تعود الى
المستعمرة .وفي طريق العودة
تقوم بلمس الأرض بطرف بطنها
تاركة مادة كيمياوية معينة
ولا تكتفي بذلك بل تتجول في
أنحاء المستعمرة بسرعة ملحوظة
ثلاث او ستة مرات وهذه الجولة
تكفي لإخبار باقي أفراد
المستعمرة بالكنز الذي وجدته
.وعند عودة النملة المكتشفة
إلى مصدر الغذاء يتبعها طابور
طويل من أفراد المستعمرة.
4.هناك نمل يدعى قطاع الورق
تكون عاملاته المتوسطة الطول
مشغولات طيلة اليوم بحمل
أجزاء الورقة النباتية إلى
المستعمرة .ولكنها تكون في
غاية الضعف عند حملها للورقة
النباتية خصوصا تجاه الذباب
أو أبناء جنسه .ويترك الذباب
بيضه على رأس هذا النمل
.وتنمو يرقة هذا الذباب
متغذية من مخ هذه النملة وهو
ما يؤدي الى موتها.وتكون
عانلات هذا النوع من النمل في
غاية الضعف أمام سلوك هذا
الذباب خصوصا عند حملهن
للورقة النباتية .ولكن هناك
من يحميهن من هجوم هذا الذباب
وهم النمل الذين من نفس
المستعمرة وقصيري القمة
يقومون بوظيفة حراسة العاملات
بواسطة جلوسهم فوق الورقة
النباتية وعلى أهبة الاستعداد
لرد أي هجوم من الذباب على
أعقابه133.
هناك نوع من النمل يدعى نمل
العسل وسبب هذه التسمية أنها
تتغذى على فضلات بعض الحشرات
المتطفلة على الأوراق
النباتية وتكون فضلات هذه
الحشرات غنية بالمواد
السكرية. وتحمل هذه النملات
ما مصته من فضلات سكرية إلى
مستعمرتها و تخزنها في أسلوب
عجيب وغريب .لان البعض من هذه
النملات العاملات يستخدم جسمه
كمخزن للماد السكرية .وتقوم
العاملات اللاتي حملن المواد
السكرية بتفريغ حمولتهن داخل
أفواه العاملات او-المخازن
الحية-والتي بدورها تملأ
الأجزاء السفلية من بطونها
بهذا السكر حتى تنتفخ بطونها
ويصبح حجمها في بعض الأحيان
بحجم حبة العنب .ويوجد من هذه
العاملات في كل غرفة من غرف
الخلية عددا منهن يتراوح بين
25و30نملة ملتصقات بواسطة
سيقانهن بسقف الغرفة في وضع
مقلوب .ولو تعرضت إحداهن
للسقوط تسارع العاملات
الأخريات إلى إلصاقها من جديد
.والمحلول السكري الذي تحمله
كل نملة يكون أثقل بثماني
مرات من وزن النملة نفسها.وفي
موسم الجفاف أو الشتاء تقوم
باقي النملات بزيادة هذه
المخازن الحية لأخذ
احتياجاتها من الغذاء - السكر
- اليومي .حيث تلصق النملة
الجائعة فمها بفم النملة
المنتفخة وعندئذ تقوم الأخيرة
بتقليص بطنها لإخراج قطرة
واحدة الى فم أختها .ومن
المستحيل ان يقوم النمل
بتطوير هذه المخازن وابتكارها
بهذه الطريقة العجيبة ومن
تلقاء نفسها .واضافة الى ذلك
التفاني والتضحية التي تتسم
بها النملة المنتفخة حيث تحمل
ما هو أقل من وزنها ثماني
مرات فضلا عن بقائها ملتصقة
وبالمقلوب مدة طويلة جدا ودون
مقابل. وان هذا الأسلوب
المبتكر وفقا لبنية تلك
النملة ليس من الصدفة وحدها
.لأن هناك نمل متطوع أن يصبح
مخزنا حيا في كل جيل جديد
وطيلة أجيال سابقة ولاحقة
.بلا شك أن سلوكها هذا من
تأثير الإلهام الإلهي الذي
خلقهن وسواهن عز وجل .
6.هناك أسلوب للدفاع عن
المستعمرة يتبعه النمل أحيانا
وهو الهجوم على العدو
والتضحية حتى الموت.وتوجد
أشكال عديدة لهذا الهجوم
الانتحاري .منها الأسلوب الذي
يتبعه النمل الذي يعيش في
الغابات المطرية في ماليزيا
فجسم هذا النوع من النمل
يتميز بوجود غدة سمية تمتد من
رأس النمل حتى مؤخرة جسمه.وان
حدث أن حوصرت النملة من كل
جهة تقوم بتقليص عضلات بطنها
بشدة تكفي لتفجير هذه الغدة
بما فيها من السم بوجه
أعدائها ولكن النتيجة موتها
بالطبع 134.
7.يقدم ذكر النمل ومثله
الأنثى تضحية كبيرة في سبيل
التكاثر .فالذكر المجنح يموت
بعد فترة قصيرة من التزاوج
.أما الأنثى فتبحث عن مكان
مناسب لإنشاء المستعمرة
وعندما تجد هذا المكان فان
أول عمل تقوم به هو التخلي عن
أجنحتها .وبعد ذلك تسد مدخل
المكان وتظل كامنة داخله
لأسابيع وحتى الشهور دون أكل
أو شرب .وتبدأ بوضع البيض
باعتبارها ملكة المستعمرة
.وتتغذى في هذه الفترة على
جناحيها الذين تخلت عنهما
.وتغذي أول اليرقات
بإفرازاتها هي وهذه الفترة
تعتبر الوحيدة بالنسبة للملكة
التي تعمل فيها لوحدا بهذا
الجهد والتفاني وهكذا تبدأ
الحياة بالمستعمرة
8.إذا حدث هجوم مفاجئ من قبل
الأعداء على المستعمرة تقوم
العملات ببذل ما بوسعهن
للحفاظ على حياة الصغار .
ويبدأ النمل المقاتل بالتحرك
صوب الجهة التي هجم منها
العدو ومجابهته فورا. أما
العاملات فتسرع نحو الغرف
التي توجد فيها اليرقات
لتحملها بواسطة فكوكها إلى
مكان معين خارج المستعمرة
لحين انتهاء المعركة 133
والمتوقع من حيوان كالنمل في
مثل هذا الموقف العصيب أن هذا
الموقف العصيب أن يفر هاربا
ويختفي فيه عن انظار الأعداء
، ولكن الذي يجري في
المستعمرة غاية في التضحية
والتفاني من أجل سلامة
المستعمرة, فلا النّمل
المقاتل ولاحراس البوابة ولا
العاملات يفكرون في أنفسهم
فقط، فالكلّ يفكّر في
المستعمرة بأكملها، وهذا ديدن
النّمل منذ ملايين السنين.
و بلا شك فإنّ الأمثلة سالفة
الذّكر تعتبر أمثلة محيرة من
عالم الأحياء, والمحير فيها
أنّ هذه الأنماط السّلوكية
صادرة عن كائنات حيّة صغيرة
كالنمل و هو ما يصادفه
الإنسان في حياته اليومية دون
أن يشعر بتفاصيل حياة هذا
المخلوق. ولو دققنا في هذه
التفاصيل لوجدنا أمورا عجيبة
وغريبة تجبرنا على التفكير
بروية في ماهيتها لأن هذه
الحيوانات تمتاز بوجود جهاز
عصبي دقيق للغاية ومخّ محدود
الحجم والارتباطات العصبية مع
هذا تقوم بسلوكيات لا يمكن
القول عنها إلاّ أنها شعورية
محض، والسبب كونها منفذة
مطيعة لما أمرت به أن تنفذه
منذ ملايين السنين دون فوضى
أو إهمال أو تقصير، وما هذا
الأمر المنفذ بحذافيره إلا
إلهام إلهي من الخلاق العليم
جل جلاله. وهذا الانقياد
التام من الكائنات الحية
للخالق عز وجل يصوّر من قبل
القرآن كما يلي :
: { أفغير دين الله يبغون وله
أسلم من في السموات والأرض
طوعا وكرها وإليه يرجعون }
سورة آل عمران - الآية 83
صور من التّضحية في خليّة
النّحل
إنّ التضحية والتفاني
الموجودين في عالم النمل
موجودان بوضوح أيضا في عالم
النحل، فهناك تشابه شبه كلي
بين سلوك العاملات في كلا
العالمين لأنّها تتفانى في
سبيل الحفاظ على حياة وسلامة
الملكة واليرقات علما أن هذه
العاملات عقيمة وهذه اليرقات
ليست من صغارها. وتتألف خلية
النحل من الملكة والذكور
المسؤولة عن تلقيح الملكة
والعاملات، والعاملات تعتبر
المسؤولة الأولى والأخيرة عن
إدارة الخلية بمختلف نشاطاتها
الحيوية اليومية مثل إنشاء
الغرف الشمعية و نظافة الخلية
و أمن الخلية و تغذية الملكة
والذكور و الاعتناء باليرقات
و إنشاء الغرف حسب نوع النّمل
الذي يخرج من البيض من ملكة
أو ذكر أو عاملة ، وتهيئة هذه
الغرف بصورة مناسبة،
وتنظيفها، إضافة إلى توفير
الدفء والرطوبة اللازمين
للبيض، وتوفير الغذاء لليرقات
حسب الحاجة { الغذاء الملكي ،
العسل الممزوج برحيق الأزهار
} وجمع المواد اللازمة لصنع
الغذاء مثل خلاصة الفواكه ،
رحيق الأزهار ، الماء ونسغ
الأشجار …
ويمكننا أن نرتّب المراحل أو
الأطوار الحياتية التي تمر
بها النحلة العاملة وفق
التسلل الزمني كما يلي : (
تعيش النحلة العاملة من 4-6
أسابيع .وعندما تخرج العاملة
من الشرنقة كاملة النمو تظل
تعمل داخل الخلية فترة ثلاثة
أسابيع تقريبا أو أقل قليلا،
و أول عمل تقوم به الاهتمام
بتنشئة اليرقات ورعايتها.
وتتغذى النحلة العاملة على ما
تأخذه من العسل ورحيق الأزهار
المتوفرين في مخازن خاصة داخل
الخلية إلا أنها تقدم جزءا
كبيرا مما تحصل عليه إلى
اليرقات كي تتغذى عليها،
وتنفذ عملية تغذية اليرقات عن
طريق إخراج جزء مما تغذت عليه
سابقا من معدتها والجزء الآخر
يتم إفرازه من غدد خاصة
موجودة في منطقة الرأس وهذه
الغدد تفرز مادة جيلاتينية
تعتبر غذاء لليرقات .
وهناك سؤال يطرح نفسه : كيف
يمكن لكائن حي خرج توا من
الشرنقة أن يعرف ما عليه أن
يفعله دون اعتراض وهذا يشمل
كلّ النحل؟ والمفروض في هذه
العاملات أن تفكر في إدامة
حياتها وكيفية الحفاظ عليها
لحظة خروجها من الشرنقة دون
تفكير في التضحية من أجل
الغير أو دون الإقدام على أي
سلوك شعوري، ولكن الحاصل غير
ذلك تماما، فهذه العاملة
تتصرف انطلاقا من مسؤولية
كبيرة تشعر بها تجاه اليرقات
وتقوم بحضنهن والاهتمام
بسلوكية متوقعة منها.
2- عندما تدخل النّحلة
العاملة يومها الثاني عشر في
الحياة تنضج غددها التي تفرز
شمع العسل عندئذ تبدأ
العاملات ببناء الغرف
الدراسية وترميم الموجود منها
والمخصصة لكن اليرقات وتخزين
الغذاء .
3-في الفترة المحصورة بين
اليوم الثاني عشر ونهاية
الأسبوع الثالث تقوم العاملات
بجمع رحيق الأزهار وخلاصة
العسل اللذين جلبا من قبل
الذاهبين خارج الخلية. وتقوم
بتحويل خلاصة العسل إلى عسل
وتخزنه فيما بعد، وفي نفس
الأثناء تقوم بتنظيف الخلية
من الفضلات والأوساخ وأجساد
النحل الميت رامية إياهن خارج
الخلية .
4-تصبح الخلية العاملة في
نهاية الأسبوع الثالث جاهزة
أن تخرج لجمع خلاصة العسل
ورحيق الأزهار والماء ونسغ
النباتات .
تبدأ النحلات العاملات
بالخروج للبحث عن الأزهار
الحتي تحتوي على خلاصة العسل
.
وهذه العملية { عملية جمع ال
غذاء } مرهقة للغاية، فتصبح
النحلة العاملة مرهقة ومتعبة
حتى الموت في نهاية أسبوعين
أو ثلاثة من العمل
المرهق(136). والملاحظ هنا أن
هذه النحلة العاملة تفرز عسلا
بمقدار يفوق حاجتها بكثير.
وهذه الملاحظة تحتاج إلى
تفسير طبعا، وأن السّفسطة
التي يقول بها دعاة التّطور
لا يمكن لها أن تفسر هذا
السّلوك المتفاني من كائن حي
يفترض فيه أن يهتم بسلامة
وإدامة حياته فقط .
وهنا تتجلى لنا آية من آيات
الله سبحانه وتعالى كما
أوضحنا في صفحات سابقة بأن
الله عز وجل هو الذي ألهم
النحل هذا السلوك العجيب
استنادا لما ورد في سورة
النحل من القرآن الكريم ،
وهذا هو التفسير الوحيد لسلوك
النحل فهو يلبي دعوة الرحمان
وإلهامه إياه دون تقصير أو
كلل ، وما على الإنسان إلا أن
يتفكر أمام هذه الحقيقة
الساطعة استجابة للآية
القرآنية الآتية :
{ سورة النحل -الآية 69 }
قوله تعالى : { ثم كلي من
الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا
يخرج من بطونها شراب مختلف
ألوانه فيه شفاء للناس إن في
ذلك لآية لقوم يتفكرون } صدق
الله العظيم .
5- تنتظر العاملات مهمة أخرى
محتاجة للتنفيذ قبل خروجهن
لجلب الغذاء وهي مهمة الحراسة
.
هناك عدد من النحل في باب كل
خلية مهمتهم حراستها من دخول
الغرباء ، فكل من لا يحمل
رائحة التبعية إلى الخلية
يعتبر مصدرا للخطر على حياة
الخلية واليرقات .
وإذا حدث أن شوهد غريب في
مدخل الخلية تبدأ الحارسات
بالهجوم عليه بشدة ، ورنين
أجنحة الحارسات الشديد يعتبر
كصفارة إنذار بقدوم الخطر
لباقي سكان الخلية ، وتستخدم
الحارسات إبرهن اللاسعة كسلاح
فعال ضد العدو الغريب ، والسم
الذي تفرزه الحارسات له رائحة
مميزة تنتشر في كافة أنحاء
الخلية كعلامة للخطر الداهم .
عندئذ يتجمع سكان الخلية عند
المدخل للمساهمة في القتال ضد
العدو الغريب .وإذا لدغت
الحارسة عدوها بإبرتها تبدأ
بفرز السم وهذا يؤدي إلى
انتشار الرائحة أكثر فأكثر ،
وكلما ازدادت رائحة السم داخل
الخلية كلما ازداد النحل
هيجانا وشراسة ضد العدو
الغاصب (137).
إن مهمة الدفاع عن الخلية
تعتبر بمثابة انتحار ، لأن
إبرة النحل اللاسعة تحتوي على
رؤس مدببة مثل أشواك القنفذ ،
ولا يمكن للنحلة أن تسحب
إبرتها بعد غرزها في جسم
حيوان بسهولة وعندما تحاول
الطيران تبقى الإبرة مغروزة
في جسم الحيوان {العدو} و
تتعرض بذلك النحلة إلى جرح
مميت نتيجة تعرض بطنها إلى شق
عميق من ناحية الخلف ، وفي
هذه الناحية من البطن توجد
الغدد التي تفرز السم والعقد
العصبية التي تتحكم بها
وعندما تلفظ النحلة أنفاسها
الأخيرة يقوم باقي النحل
بالاستفادة من موتها عن طريق
أخذ السم الموجود في غدد
القتيلة والاستمرار بضنحة في
جرح العدو الغريب (138).
بعد هذا الاستعراض ، كيف لنا
أن نفسر سلوك كائن حي يبدأ
منذ أول مرة خطوة له في
الحياة بالعمل الدؤوب
والمثابرة دون كلل أو ملل من
أجل راحة الغير وسلامته وحتى
تضحيته بحياته من أجل سلامة
الآخرين ؟إضافة إلى هذه
الأنماط السلوكية هي نفسها في
كل أنواع النحل والنمل أينما
وجدت على الكرة الأرضية ومنذ
ملايين السنين ، والحقيقة
تبرز أمامنا بوضوح ،حقيقة
سلوك هذه الكائنات الصغيرة
بحجمها والكبيرة بتضحياتها من
تأثير الهام الله عز وجل لها
.
" سورة هود - الآية 56 " قوله
تعالى : { إني توكلت على الله
ربي وربكم ما من دابة إلا هو
آخذ بناصيتها إن ربي على صراط
مستقيم } صدق الله العظيم .
الخاتــــــمة
بعد هذا العرض الموجز لأمثلة
الكائنات الحية المختلفة يتضح
لنا أن هنالك قاسما مشتركا
بين الأنماط السلوكية التي
تبديها وهو التضحية والرحمة
والشفقة ، وكل منها يراعي
صغيره ويدافع ويحمي عائلته أو
أي حيوان آخر بأروع صورة
ممكنة ، وكل منها يضرب لنا
مثلا بالرحمة والمودة وبنفس
الوقت يساعد بعضها البعض عند
الخطر وفق سلوك عقلاني مدهش ،
إضافة إلى تغذية بعضها البعض
بأساليب ذكية ، وتبني هذه
الحيوانات بيوتها ببراعة
مهندس معماري حاذق ومهارة
بنّاء خبير .
وهناك نقطة مهمة للغاية ونؤكد
عليها طيلة صفحات هذا الكتاب
وهي : أن الحديث يدور عن
كائنات حية منها الصغير مثل
الحشرات ومنها الطيور
والضفادع ، وهل لنا أن ندعي
أن هذه الكائنات الحية التي
لا تملك إلا ما يشبه المخ أو
ما يقوم مقامه تخترع شيئا
جديدا أو تبتكر وسيلة ما
ناجعة في الحياة ؟
وهل تعرف الطيور أو الحشرات
كيفية إبداء سلوك يتم بالرحمة
والشفقة ؟
كيف لنا أن نفسر سلوك ذكر
البطريق المليء بالتضحية
والفداء من أجل سلامة أنثاه
وأولاده ؟
لماذا ترمي الغزلان أو الحمير
الوحشية بنفسها أمام الخطر
المفترس كحاجز بينه وبين
صغارها ؟
وهذه الأسئلة تعتبر معضلة
كبيرة أمام نظرية "التطور"
التي تدعي أن الأحياء نشأ
وآمن جراء الصدفة وحدها ومن
أشياء غير حية ، ويدعي دعاة
"التطور" أن الأحياء تسلك هذا
السلوك نتيجة غرائزها .
وهذه الغرائز مودعة في
جيناتها وهذه الادعاءات
تقودهم إلى مآزق فكرية لا
مخرج لها ،لأن السؤال المنطقي
الذي يعقب هذه الادعاءات هو :
من الذي وضع أو برمج الغرائز
في هذه الجينات التي نتج عنها
السلوك المتسم بالتضحية
والرحمة والشفقة ، والذي يقود
الكائن الحي إلى بناء المساكن
والأعشاش عن سابق معرفة ؟ كيف
تشكلت هذه الأنماط السلوكية
داخل الجين المتألف من مواد
غير حية كالكربون والفوسفات ؟
ولا يملك دعاة " التطور " أية
إجابة عن هذه الأسئلة ،
وتنحصر إجابتهم في ردود لا
تقدم ولا تؤخر ولا تنفع إلا
لذر الرماد في العيون وتتمثل
بكون هذه الخصائص أو الغرائز
قد تم برمجتها في الجينات عن
طريق " الطبيعة الأم " ،
وكثيرا ما نسمع منهم " أن
الطبيعة هي التي أعطت للأحياء
خاصية ورعاية الصغار " ولكن
هذه الطبيعة تمتلك فعلا مثل
هذه القدرة والطبيعة التي
نتحدث عنها مخلوقة بدورها
وتتألف من أشجار وأحجار
وأنهار والجبال والمياه
والتراب ، يا ترى أي جزء من
هذه الأجزاء يملك المقدرة على
إكساب الكائنات الحية أنماطا
سلوكية مختلفة ؟
وهذا الإدعاء الباطل من قبل
هؤلاء قد تحدث عنه القرآن
الكريم في معرض إيراده لأمثلة
الجاحدين والناكرين لقدرة
الله تعالى وجعلهم الطبيعة
ندا لله حاشاه ، والصحيح أن
للطبيعة بدورها مخلوقة وتتألف
من كائنات حية وغير مخلوقة
ولا تملك الطبيعة أية قدرة
على الإكساب أو الخلق ، ويصف
لنا القرآن حال الذين يصفون
الأشياء الضعيفة بالقوة
والقدرة : " سورة الفرقان -
الآية 3 " قال تعالى :{
واتخذوا من دونه آلهة لا
يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا
يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
ولا يملكون موتا ولا حياة ولا
نشورا } صدق الله العظيم .
ومن المستحيل قطعا أن يمتلك
كائنا حي المقدرة والذكاء
والمعرفة والمفاهيم المعنوية
بتأثير كائنات لا تملك عقلا
ولا قوة وهذا الأمر يتنافى مع
قواعد العقل والمنطق .
والحقيقة أمامنا ساطعة كالشمس
وهي سلوك هذه الأحياء هذا
السلوك المتصف بالرحمة
والشفقة والتفاني والتضحية
بتأثير الإلهام من الله
الرحمن الرحيم الذي وسع كرسيه
كل شيئا رحمة وعلما .
وأن الأمثلة التي أوردناها في
هذا الكتاب دليل على قوة
ورحمة وقدرة الله تعالى على
جعل هذه الكائنات تتبع هذا
السلوك المتميز ، فالطير أو
الغزال الذي يدافع عن صغيره
ويذود عنه ويعمل جاهدا
لتنشئته سليما آمنا لا يفعل
كل ذلك إلا بإلهام إلهي .
ورحمة الله التي وسعت كل شيء
لا ترى أمثلتها في الحيوانات
فقط بل يمكن رؤيتها في
الإنسان أيضا لذلك فاللذين
يتفكرون ويتمتعون في أصل
ومصدر الأشياء لاشك سيصلون
إلى النتيجة البديهية : "
سورة هود - الآية 57 " { فإن
تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت
به إليكم و يستخلف ربي قوما
غيركم ولا تضرونه شيئا إنّ
ربي على كل شيء حفيظ }
صدق الله العظيم .
" سورة المؤمنين - الآية 118
" { وقل رب اغفر وارحم وأنت
خير الراحمين } صدق الله
العظيم .
خطأ نظرية التطور
طيلة صفحات الكتاب تفحصنا
الطبيعة بمحتوياتها غير الحية
مثل جسيماتها الهواء ، الضوء
، الذرات، العناصر ، ونتيجة
لهذا التفحص توصلنا إلى عدم
إمكانية ظهور الكون بالصدفة ،
بالعكس فكل جزء من أجزاء
الكون يشير إلى عملية خلق
باهرة ، أما المادية التي
تعارض عملية الخلق فليست إلا
عبارة عن سفسطة علمية لا غير
.
وأن سقوط المادية لاشك أدى
إلى اضمحلال النظريات
الفلسفية القائمة عليها وعلى
رأسها نظرية "التطور" أو "
الدارويننية " ، لأن هذه
النظريات قد ثبت إفلاسها
علميا بعد إثبات خلق الأحياء
من مواد غير حية من قبل الله
سبحانه وتعالى ، ويتحدث
العالم الأميركي " هوك روس "
والمتخصص في الفيزياء الكونية
{ الفلكية } عن هذا الأمر
قائلا :
" تستند الحركات الإلحادية
والنظريات الدارويننية
والفلسفية منذ القرن الثامن
عشر وحتى القرن العشرين على
فرضية خاطئة تنصر على وجود
الكون منذ الأزل ، ولكن نظرية
الانفجار الكبير وضعتنا أمام
السبب الذي خلق من أجله الكون
وهذا التساؤل نفسه يؤدي بنا
إلى من خلق الكون وما مصدر
الحياة ؟ (139).
فالذي خلق الكون و سوّاه في
كل صغيرة وكبيرة هو الله
الخالق فاطر السماوات والأرض
، إذن فمن المستحيل أن يكون
خلق الأحياء من جراء المصادفة
وحدها كما تدعي نظرية
"التطور" .
علما بأننا عند دراستنا لهذه
النظرية لوجدنا أدلة دامغة
عدم صحتها ، ويعتبر تصميم
الكائن الحي بكل صفاته
وخصائصه أكثر تعقيدا وصعوبة
من تصميم الكائنات غير الحية
كما تحدثنا عن ذلك في صفحات
الكتاب ، ففي العالم غير الحي
تكون الذرات صغيرة جدا وذات
نظام دقيق للغاية في البنيان
والحركة ولكن هذه الذرات أعيد
ترتيبها معينا ومعقدا ومفصلا
في أجسام الكائنات الحية لصنع
وتركيب البروتينيات
والإنزيمات وكافة المواد
اللازمة للخلية عبر آلية
معينة ومنظمة . وهذه الآلية
الحيوية قد أثبتت قتل نظرية
داروين في التطور عند نهايات
القرن العشرين .
ورأينا هذه الحقيقة عبر إيراد
أمثلة مختلفة ولازلنا نورد
الأمثلة عليها ، ورأينا أن
تلخيص الموضوع مفيد من كافة
النواحي .
السّقوط العلمي لنظرية داروين
تعتبر هذه النظرية قديمة جدا
ويرجع تاريخها إلى الإغريق
ولكن لم تتشكل ضمن قالب علمي
إلا في القرن التاسع عشر ،
والسبب الرئيسي الذي جعل هذه
النظريات العلمية هو تأليف
ونشر كتاب " أصل الأنواع " من
قبل تشارلس داروينن سنة 1859،
وعارض داروينن في كتابه هذا
فكرة خلق الأحياء من قبل الله
سبحانه وتعالى ، وحسب رأيه أن
الأحياء نشأت من أصل واحد وجد
واحد واختلفت فيما بينها
بمرور الزمن .
ولم تستند نظرية داروينن على
أي دليل علمي مادي ، وإنما
كانت فرضية منطقية وهو نفسه
يقبل بهذه الحقيقة ويحتوي
الكتاب على باب مطول للغاية
تحت عنوان " صعوبات النظرية "
يعترف فيه داروينن بأن هناك
أسئلة عديدة عجزت النظرية في
الإجابة عنها وكأن يأمل
داروينن في التقدم العلمي
كمخرج له لإيجاد ردود على
الأسئلة المستعصية و الأدلة
المقنعة لذلك وأن هذه الأدلة
ربما تزيد قوة وصحة نظريته ،
إلا التقدم العلمي قد خيب
أمله وفند مزاعمه واحدا تلو
الآخر وأثبت بطلان نظريته .
ويمكن تلخيص سقوط نظرية
داروينن أمام العلم تحت ثلاثة
موضوعات رئيسية :
1) عجز النظرية عن تفسير
كيفية نشوء الحياة على كوكب
الأرض .
2) أن فرضية وجود " آلية
التطور " التي ساقتها النظرية
افتقرت إلى ما يثبت صحتها من
دليل علمي يمكن الاستناد عليه
في نقدها وتحليلها علميا .
3) البيانات التي أتى بها علم
المتحجرات والتي تضاربت مع
النظرية .
وفي هذه المقالة سنتحدث
بإسهاب عن هذه الموضوعات
الرئيسية
العقبة الرئيسية أمام النظرية
والتي لم تتجاوزها : أصل
الحياة
تدعي نظرية " التطور" أن
الحياة نشأت قبل 3.8 مليار
سنة في العهود الأولى للأرض
ومن خلية حية واحدة وبعد هذا
الإدعاء ظهرت أسئلة على رأسها
كيفية نشوء الأنواع العديدة
والتي تقدر بالملايين من خلية
واحدة ولو كان هذا الفرض
صحيحا لماذا لم نجد دليلا
واحدا في المتحجرات التي تظهر
نتيجة الحفريات ، ولكن
التساؤل الرئيسي في هذا
الموضوع كيف ظهرت تلك الخلية
الحية الأولى إلى الوجود ؟
وحسب هذه النظرية فإن هذه
الخلية ظهرت إلى الوجود نتيجة
الصدفة وحدها رافضة أي احتمال
خارجي أقوى من الطبيعة
ومعارضة لفكرة الخلق ، أي أن
النظرية تدعي بنشأة مادة حية
من مواد غير حية ، ولكن هذا
الإدعاء منافي لبديهيات علم
الإحياء .
الحياة تنشأ من الحياة
لم يتحدث داروين في كتابه عن
أصل الحياة أبدا ، لأن الفكرة
السائدة في تلك المرحلة كانت
تدور حول تشكل الكائنات الحية
من وحدات بنائية بسيطة ،
والنظرية المتواترة من القرون
الوسطى كانت حاكمة على عقول
العلماء وتتلخص بـ" الجيل
الناشئ تلقائيا " أو أن
المواد غير الحية تجمعت ونشأ
منها هذا التجمع كائنا حيا ،
حتى أن البعض أو أغلب
المفكرين كان يظن أن الحشرات
تنشأ من فضلات الأكل أو فتات
المائدة والفئران تنشأ من
القمح ، وأجريت تجارب غريبة
من نوعها لإثبات هذه النظريات
. حتى أن البعض ذهب بعيدا في
خياله العلمي ظانا أن وضع
حفنة من القمح على قطعة قماش
مهترئة و الانتظار قليلا يؤدي
إلى خروج فئران جديدة إلى
الوجود . والدليل الآخر الذي
استند عليه المفكرون في
تصديقهم لفكرة النشوء الحي من
غير الحي رؤيتهم الدود يغزو
اللحم المتعفن ، ولكن اتضح
فيما بعد أن هذا الدود لا
يظهر من تلقاء نفسه بل ينقل
إلى اللحم بواسطة الذباب الذي
يحط على اللحم حاملا معه
يرقات هذا الدود التي لا ترى
بالعين المجردة .
أما الفترة التي ظهر فيها
كتاب "أصل الأنواع" لداروين
فقد كانت هناك فكرة سائدة في
أوساط العلماء تفيد بأن
البكتيريا تنشأ من مواد غير
حية .
وبعد نشر الكتاب بخمس سنين
أثبت الكيمياوي الفرنسي لويس
باستير بطلان هذا الإعتقاد ،
فقد كتب هذا الباحث المشهور
بعد تجارب عديدة وبحوث مطولة
مايلي : " ثبت بالتأكيد بطلان
النظرية القائلة بنشوء المواد
غير الحية " (140).
وناهض المؤمنون بنظرية "
التطور " نتئج أبحاث باستر
لمدة طويلة ، وبمرور الزمن
تقدم العلم كثيرا وأثبت أن
الخلية ذات بناء مركب ذو
تفصيلات عديدة لايمكن لها أن
تنشأ من تلقاء ذاتها أبدا .
الجهود المبذولة طيلة القرن
العشرين دون جدوى
كان عالم الأحياء الروسي
الكسندر أوبارين أول من تناول
قضية أصل الحياة في القرن
العشرين وحاول أوبارين في
الثلاثينات أن يثبت نشوء
الخلية الحية بالصدفة عن طريق
إجراء تجارب عديدة
ولكن هذه التجارب باءت بالفشل
واضطر أن يعترف في النهاية
قائلا : " للأسف الشديد إنّ
أصل الخلية الحية يعتبر نقطة
سوداء تبتلع النظرية بكافة
تفاصيلها " (141).
ودأب العلماء من المؤمنين
بهذه النظرية والذين قدموا
بعد أويارين على إجراء
التجارب لإثبات مصدر الحياة ،
وأشهر هذه التجارب هي التي
أجريت من قبل العالم الأميركي
ستانلي ميللر سنة 1953، حيث
استطاع تحضير بعض الأحماض
الأمينية والتي تدخل في تركيب
البروتينيات عن طريق إعطاء
شحنة كهربائية لخليط من
الغازات التي افترض أنها كانت
توجد في الغلاف الجوي للأرض
في الأزمنة الأولى .
وثبت في السنوات اللاحقة أن
هذه الغازات لم تشكل مكونات
الغلاف جوي في الأزمنة
الغابرة أو بمعنى آخر لم تكن
بالنسب التي افترضها العالم
وبذلك سقطة هذه التجربة من
الاهتمامات العلماء بعد أن
كانت ولبرهة قصيرة كطريق
لإثبات صحة النظرية (142).
وبعد فترة صمت ليست بالقصيرة
اعترف ميللر بنفسه بأن
الغازات التي استخدمها في
التجربة لم تكن متطابقة مع
الحقيقة (143).
وباءت جميع تجارب دعاة التطور
لإثبات أو تفسير أصل الحياة
بالفشل الذريع طيلة سنوات
القرن العشرين . وكتب جيفري
بادا الباحث في علم الكيمياء
الجيولوجية والذي يعمل في
معهد سان دييغوسكريبس مقالا
في مجلة " الأرض-ايرث" التي
تعتبر منبرا لنظرية التطور
وتاريخ المقال سنة 1998 يتحدث
فيه عن هذه الحقيقة " ونحن إذ
تخطينا القرن العشرين مازلنا
نواجه نفس ما واجهناه في
بداية هذا القرن من سؤال يبحث
عن جواب ولكن دون جدوى وهو :
كيف نشأت الحياة على كوكب
الأرض ؟ " (144).
يعتبر التركيب المعقد لأبسط
الكائنات الحية السبب الرئيسي
لمواجهة نظرية التطور مأزقا
حرجا لا حل له على الإطلاق
وفق فرضياتها .وخلية الكائن
الحي أكثر تعقيدا من جميع
الاختراعات التقنية التي توصل
إليها الإنسان .ولو تجمع أذكى
العلماء في أحسن المختبرات
العلنية لما استطاعوا إنتاج
مواد حية من مواد غير حية.
والشروط التي توجب ظهور خلية
حية الى الوجود لا يمكن
إسنادها الى الصدفة بأي حال
من الأحوال .ولو فرضنا ان
هناك نسبة احتمال معينة لبناء
البروتين اللازم لتركيب
الخلية فتصبح هذه النسبة
لبروتين يتكون من 500حامض
أميني بمقدار 1 إلى 10مرفوعة
الى القوة 950.علما بان أية
نسبة احتمال اقل من 1 الى 10
مرفوعة الى القوة 50 تعتبر
نسبة مستحيلة استنادا إلى
المبادئ الرياضيات .
والخلية الحية تحتوي على
النواة التي بدورها تحتوي على
الـ AND أو جزئية الحامض
النووي دي اوكسي الرايوزي
وهذه الجزئية بنك المعلومات
بالنسبة للخلية .ولو حاولنا
كتابة المعلومات الموجودة في
الـ AND الخاص بخلية الإنسان
لوجدنا أنفسنا مضطرين إلى
تدوين 900مجلد وكل مجلد يتألف
من 500 صفحة.
وفي هذه النقطة بالذات تواجه
النظرية مشكلة مستعصية أخرى
:فكما هو معروف ان الحامض الـ
ADNلا يمكن أن يتضاعف إلا
بوجود بروتينات خاصة
(أنزيمات) .ولا يمكن بناء هذه
الأنزيمات إلا بما يناسب
الشفرة الوراثية الموجودة على
جزئية الـ AND .إذا لا يمكن
لهذا الحمض أن يزدوج إلا
بوجودهما معا وفي آن واحد
.وهذه الحقيقة تتنافى مع
فرضية سيناريو ظهور الحياة
الى الوجود من تلقاء نفسها .
وكتب البروفيسور LESLIE ORGEL
الباحث في كلية سان تياقو
بكاليفورنيا في مقال له على
صفحات المجلة العلمية
الأمريكية بتاريخ أكتوبر
سنة1994 عن هذه الحقيقة :
أن فرضية وجود البروتينات
(والتي هي جزئيات على درجة
عالية من التعقيد ) والأحماض
النووية RNA-DNA في نفس
المكان والزمان بمحض الصدفة
يعتبر احتمالا مستحيلا .وحتى
لو لم يوجد أحدهما فان إيجاد
الآخر أيضا من المستحيلات
.لهذا السبب فعلى الإنسان أن
يقتنع أن الحياة لم تظهر
نتيجة التفاعلات الكيماوية
.وما دمنا أثبتنا أن من
الاستحالة نشوء الحياة بفعل
العوامل الطبيعية .فإذن هناك
سبب خارج عن المقاييس لنشوء
الحياة .وهذا السبب بالذات
يفند مزاعم نظرية التطور التي
تعارض فكرة الخلق.
الآليات الخيالية لنظرية
التطور
العمل الثاني الذي ساهم في
إثبات بطلان هذه النظرية
يتمثل في مفهومين يدوران حول
موضوع آليات التطور وقد ثبت
أن هذين المفهومين لا يحملان
معنى علمي يمكن الاستناد عليه
في نقدهما أو تقييمهما.
فقد ارجع داروين جل نظريته
إلى آلية الانتخاب الطبيعي
وأعطاها أهمية استثنائية حتى
انه أسمى كتابه: أصل الأنواع
عن طريق الانتخاب
الطبيعيويعني هذا المصطلح إن
البقاء للأصلح.وتستند هذه
الفرضية على مبدأ البقاء
للكائن الحي الذي يبدي تجاوبا
مع الشروط الطبيعية أي أن
الأقوى على التحمل هو الذي
يستطيع أن يستمر في الحياة
.ومثال ذلك لو هدد حيوان
مفترس قطيع من الإيلة فالأسرع
بالجري منها هو الذي يستطيع
البقاء على قيد الحياة .وبهذا
الشكل يظل القطيع متشكلا من
الأعضاء السريعين والأقوياء
.ولكن هذه الآلية لا تحول الى
كائن حي آخر كالحصان مثلا
.ولهذا السبب لا تملك آلية
الانتخاب الطبيعي أية قيمة
علمية يمكن انتقادها .و
داروين نفسه كان يعلم بوجود
هذه الثغرة العلمية واضطر إلى
أن يقول في كتابه أصل
الأنواع" لا توجد أية فائدة
في الانتخاب الطبيعي طالما لا
يحقق أية تغييرات إيجابية ".
تأثير لامارك LAMARCK
إذن فهذه التغييرات الإيجابية
كيف كان يمكن لها أن تحدث
؟حاول داروينن الإجابة
استنادا الى الفكرة العلمية
البدائية التي كانت سائدة في
ذلك الوقت رجوعا إلى أفكار
LAMARCK. وهو باحث فرنسي في
علم الأحياء عاش قبل داروين
وكان يتبنى فكرة مؤداها أن
الأحياء تعاني تكيفات معينة
أثناء حياتها وتورث هذه
التكيفات الى الأجيال اللاحقة
وان تراكم هذه التكيفات من
جيل لآخر يؤدي الى ظهور أنواع
جديدة من الأحياء .وعلى سبيل
المثال حسب فكر لامارك فإن
الزرافات نشأت تحاول أن
التغذي على الأشجار الطويلة
واحتاجت الى عنق طويل لتحقيق
هذا الغرض
وأعطى داروينن أمثلة مشابهة ي
كتابه أصل الأنواع ذاكرا أن
أصل الحيتان هو الدببة التي
كانت تنزل إلى الماء بحثا عن
الطعام وتحولت بمرور الزمن
إلى حيتان 147, ولكن طرأ
تغيير في مسيرة العلم باكتشاف
مندل لقوانين الوراثة التي
اكتسبت قوة نتيجة ظهور علم
الجينات في القرن العشرين
وثبت بما لا يقبل الشك أن
الخصائص المكتسبة لا تورث إلى
أجيال لاحقة. وهكذا بقي
الانتخاب الطبيعي سواء بمفرده
أو النظرية التي يدخل في
حيزها كآلية غير فعالة.
الداروينية الحديثة و الطفرات
الوراثيّة
قام الداروينيون بمواجهة هذا
المأزق اعتبارا من نهاية
الثلاثينيات عبر طرح نظرية
جديدة باسم النظرية الصنعية
الحديثة وشاعت باسم النيودا
روينية أو الدراوينية الحديثة
، وتستند على فرضية حدوث
تغييرات في البناء الجيني
للإحياء وهذه التغييرات قد
تكون مفيدة وتدعى الطفرات
الوراثيّة و تكون ضارة نتيجة
التعرض للإشعاعات الضارة أو
نتيجة خطأ في الاستنساخ
الوراثي ،وحاليا تحافظ
الدارويننية على كيانها
النظري عبر هذه الفرضية ،
وتدعي هذه النظرية بصورة عامة
أن أعضاء الكائنات الحية ذات
تراكيب معقدة للغاية نشأت عن
طريق الطفرات الوراثيّة التي
طرأت على أجسام هذه الكائنات
وبمرور الزمن أخذت شكلا معينا
كالأنف والعين والأذن
والأجنحة وغيرها من الأعضاء ،
ولكن ظلت هذه الفرضية عاجزة
أمام الحقيقة وهي أن لا تؤدي
إلى ظهور أنواع جديدة بالعكس
تعتبر تغييرات ضارة . وسبب
ذلك بسيط للغاية : وهو الـDNA
ذو التركيب المعقد ، فجزئية
هذا الحامض النووي تتعرض
لأضرار جسيمة في حالة تعرضها
لتأثير خارجي ولو اعتباطي ،
ويشرح هذا الأمر بالتفصيل
الباحث الأميركي B.G
RAGANATHAN ب.ج. راكنا ثان
وهو متخصص في علم الجينات
قائلا :إن الطفرات الوراثيّة
عبارة عن تغييرات عشوائية
وضارة وصغيرة ومن النادر جدا
حدوثها وفي أحسن الأحوال تكون
غير فعالة ، وهذه الخصائص
الثلاثة تبين عدم إمكانية لعب
دور كبير في التطور المفترض .
ومن البديهي أن تكون أية طفرة
وراثيّة تطرأ على كائن حي
متكامل الأعضاء إما ضارة أو
غير فعالة ،مثلا أي تغيير
يطرأ على ساعة يد لا يؤدي إلى
تطورها ، فإما يضرها أو لا
ينفعها في أحسن الأحوال ،
والزلزال لا يطور مدينة بل
يدمرها .(148) وإلى يومنا لم
تشاهد أية طفرة وراثيّة أو
تغيير جيني للكائن الحي. و
يفهم من هذا العرض أن الطفرات
الوراثيّة التي سيقت من قبل
النظرية كمفهوم أو آلية خاصة
للتطور هي في الحقيقة تغيير
ذو طابع تخريبي على أجساد
الكائنات الحية يتركها معوقا
في الغالب ، { والأثر البالغ
الذي تتركه الطفرات الوراثيّة
على جسم الإنسان هو الإصابة
بمرض السرطان } .ومثل هذه
الآلية التخريبية لا يمكن لها
أن تكون آلية للتطوير ، أما
الانتخاب الطبيعي فكما اعترف
داروينن بنفسه فلا يمكن لوحده
أن يكون ذا تأثير بالغ ن وهذه
الحقيقة تين لنا عدم وجود أية
آية آلية للتطور في الطبيعة ،
ولعدم وجود هذه الآلية فمن
الطبيعي أن لا تكون هناك أية
فترة لازمة لهذا التطور
المزعوم .سجلات الحفريات : لا
أثر لأي أنواع انتقالية أحسن
شاهد على عدم وجود فترة
للتطور كما تدعي النظرية هو
سجلات الحفريات. فحسب هذه
النظرية أن الكائنات الحية
نشأت وتطورت عن بعضها البعض ،
فهناك كائن حي نشأ كأول نوع
ثم نشأ عنه نوع آخر وهكذا ،
وحسب النظرية فإن هذه العملية
استمرت مئات الملايين من
السنين وتحققت خطوة خطوة
.ومادام الأمر كذلك فيجب أن
تكون هناك أنواعا انتقالية
عديدة عاشت وتكاثرت على وجه
البسيطة . على سبيل المثال
يفترض أن يكون هناك كائن حي
نصف سمكة ونصف زاحف أي يملك
جزءا من خصائص الأسماك وجزءا
من خصائص الزواحف قد عاش
وتكاثر على كوكب الأرض أو
كائن حي يحمل خصائص مشتركة من
الزواحف والطيور ، ولكونها
كائنات أو أنواعا من كائنات
حية انتقالية فيفترض أن تكون
محطة للتجربة فتنشأ معوقة أو
ذات نواقص أو عيوب فسيولوجية
أو مورفولوجية . ويدعو دعاة
التطور هذه الكائنات بالـ
كائنات الحية البينية ولو صح
أن هذه الكائنات البينية قد
عاشت وتكاثرت فيجب أن يكون
عددها بالملايين وحتى
بالمليارات ، ويفترض أن نجد
لها أثرا في الحفريات ، ويشرح
داروينن هذا الأمر في كاتبه
أصل الأنواع : إذا صحت نظريتي
فينبغي وجود كائنات حية بينية
عديدة جدا على كوكبنا والذي
يثبت هذا الأمر هو وجوب إيجاد
أثر لها في الحفريات الجارية
عن المتحجرات .(149)
خيبة أمل داروين
استمرت أعمال البحث عن
المتحجرات منذ أواسط القرن
التاسع عشر وحتى يومنا هذا في
كافة أنحاء الأرض التي نعيش
عليها ولكن لم تجد هذه
الأبحاث والحفريات عن إيجاد
أي أثر لهذه الكائنات البينية
. وثبت من الأدلة التي تم
التوصل إليها عن طريق فحص
المتحجرات التي حصل عليها
العلماء نتيجة هذه الحفريات
أن جميع الكائنات الحية نشأت
وظهرت على وجه الأرض بدون نقص
وفي نفس التوقيت وهذا عكس ما
يدعيه الدارويننيون .
واعترف بهذه الحقيقة الباحث
في علم المتحجرات DEREK
W.AGER درك.و.أيكر بالرغم من
كونه مؤمنا بفكرة التطور
قائلا :أن مأزقنا هو : عندما
نقوم بتدقيق سجلات الحفريات
نجد أمامنا حقيقة واحدة لا
غير سواء المتعلقة بالأجناس
أو بالأنواع ، نرى أمامنا
مخلوقات ظهرت فجأة على شكل
مجاميع بدلا من رؤيتنا
لكائنات متطورة تدريجيا
(150).
أي أن هذه الحفريات تدل على
أن هذه المتحجرات تعود إلى
كائنات حية ظهرت فجأة على وجه
الحياة بدون أي نقص ولا أثر
في هذه المتحجرات لأي مخلوقات
حية بينية ، وهذا يتعارض مع
ادعاءات داروينن ، والأبعد من
ذلك أن هذا دليل كاف على هذه
الكائنات المخلوقة ، لأن هذا
الدليل يبين لنا هذا الكائن
الحي قد ظهر إلى الوجود بدون
جدّ له ودون أية عملية للتطور
أي أن هذه الكائن الحي مخلوق
حتما ، ويعترف بهذه الحقيقة
Doglas Futuyma دوغلاس
فوتويما بعلم الأحياء قائلا :
الخلق والتطور يعتبران
مفهومان ذوا صدى بشأن أصل
الكائنات الحية ، فهناك
احتمالان لا ثالث لهما الأول
أن تكون الكائنات الحية قد
ظهرت إلى الوجود فجأة ودون
نقص أي أنها مخلوقة أو أن
تكون غير ذلك ، وعندما تكون
غير ذلك ينبغي أن تكون مرت
بفترة تطور عن أنواع أخرى
سبقتها في الوجود ، وإذا كانت
هذه الكائنات الحية قد ظهرت
فجأة وبهذا الشكل المعجز
فينبغي أن يكون هناك من خلقها
بهذه الصورة وهذا الخالق بلا
شك ذو قوة لا حد لها (151).
أما المتحجرات فتعتبر دليلا
قويا على الكائنات الحية قد
ظهرت إلى الوجود دون نقص
وبهذا الشكل المتكامل أي أن
أصل الأنواع ليس كما يدعى
داروينن بل الخلق .
قصة تطور الإنسان
من أهم الموضوعات التي يخوض
فيها الدارويننيون ويدخلون في
نقاشات متشعبة عنها هي موضوعة
أصل الإنسان ، أما الإدعاء
الدارويني بهذا الصدد فيتلخص
في فرضية كون الإنسان قد نشأ
من مخلوقات شبيهة بالقرود ،
وهذا النشوء والتطور قد استمر
لفترة من 4-5 مليون سنة تطور
هذا المخلوق الشبيه بالقرود
إلى أنواع بينية حتى أخذ شكل
الإنسان الحالي ، وصنفت أربعة
أنواع للإنسان حسب التسلسل
الزمني :
1-Austrapithecus
أوسترالوبيثيكوس
2-Homo Habilis هومو هابيليس
3-Homo Erectus هومو أركتوس
4-Homo Sapiens هوموسابينس {
الإنسان الحالي }
وسمى الدارويننيون الجد
الأعلى للإنسان باسم "
Australopitheucus " أو قرد
الجنوب ، وفي الحقيقة لم تكن
هذه المخلوقات إلا أنواعا من
القرود المنقرضة ، وثبتت ذلك
علميا عن طريق الأبحاث التي
أجراها باحثان مشهوران في علم
التشريح وهما الأميركي
Charles Oxnard تشارلس
أوكسنارد والبريطاني Lord
Solly Zuckerman اللورد سوللي
زوكرمان وأثبتا أن هذا النوع
من الكائنات الحية لا يمت
بأية صلة بالإنسان .(152)
ويصنف دعاة التطور الجيل
التالي من هذه الأحياء تحت
اسم Homo أي الإنسان ، وهذا
الجيل تطور عن قرد الجنوب أو
الـ Australopithecus ويرتب
هؤلاء المتحجرات الخاصة بهذا
لا كائن الحي تتشكل جدولا
زمنيا لعملية التطور وهو
جدولا خياليا بالطبع
والخيالية نابعة من عدم وجود
أي دليل يثبت أن هذه الأنواع
نشأت وتطورت عن بعضها ،
واعترف بهذا الخطأ العلمي أحد
أشرس المدافعين عن نظرية
التطور في القرن العشرين وهو
Ernest mayr أرنست ماير
قائلا : " إن السلسلة المتصلة
بـ Homo sapiens في حقيقتها
مفقودة " (153).
ويدعي المؤمنون بنظرية التطور
أثناء تشكيلهم للسلسلة التي
حلقاتها هي :
Australopithecus ___Homo
Habilis___Homo Erctus___Homo
Sapiens بأن كل نوع منها هو
جد النوع الذي يليه ، ولكن
علماء المتحجرات بعد فحصهم
للمتحجرات الخاصة بـ
Australopithecus و Homo
Habilis و Homo Erectus أن
هذه الأنواع قد عاشت في أنحاء
مختلفة من كوكب الأرض وفي نفس
الفترة الزمنية .(154)
و الأدهى من ذلك أن أفرادا من
نوع Homo Erectus قد عاشت حتى
فترات زمنية حديثة {قريبة} ،
حتى أن إنسان النياندرتال
Homo Sapiens Neandertalensis
و إنسان
الـ سابينس { الإنسان الحالي
} Homo Sapiens Sapiens قد
عاشا في نفس الوسط أو البيئة
جنبا إلى جنب .(155)
وهذه الأدلة بالطبع تؤدي إلى
نفس الادعاءات القائل بأن هذه
الأنواع جد بعضها البعض .
ويتحدث Stephen Jay Gould
ستيفن جي كوولد المتخصص في
علم المتحجرات في جامعة
هارفارد عن هذا المأزق العصيب
الذي دخلته نظرية التطور
بالرغم من كونه مؤمنا بها
قائلا :
أمامنا مشهد يصور لنا أن هناك
ثلاثة أنواع مختلفة من
الإنسان تعيش بموازاة بعضها ،
إذن فما الذي حدث لشجرة
التطور الخاصة بنا ؟ والواضح
أن لا أحد من هذه الأنواع قد
تطور من
الآخر ، والأبعد من ذلك عندما
نجري بحثا مقارنة نوعية بين
هذه الأنواع لا نجد بينها أي
ترابط يدل على أنها تطورت
بعضها عن بعض تدريجيا .
وملخص الكلام أن النظرية
الخاصة بنشوء الإنسان من
مخلوق نصفه قرد ونصفه الآخر
إنسان
ماهي إلا نظرة خيالية مستندة
على نوع من الدعاية المضللة
لجعلها صحيحة في دنيا العلم
ولكن الحقيقة أن هذه النظرية
لا تستند إلى أي دليل علمي
يثبت صحتها أو صحة فرضيتها .
وتوصل لهذه الحقيقة Lord
solly zuderman اللورد سوللي
زالرمان الذي أجرى أبحاثا على
متحجرات الـAustraalopithecus
ولمدة خمسة عشرة سنة وهذا
الباحث يعتبر من أشهر علماء
المتحجرات في بريطانيا ومؤمنة
في نظرية التطور وبالرغم من
كونه كذلك اعترف بعد أبحاثه
بأن لا توجد سلسلة تطورية
تمتد من الكائنات الشبيهة
بالقرود إلى إنساننا الحالي .
وارتكب Zuckerman زاكرمان خطأ
علميا يلفت الانتباه ، فقد
صنف فروع المعرفة التي يعترف
بكونها موجودة علميا إلى
عملية وغير عملية ، واستنادا
إلى الجدول الذي صنفه زاكرمان
تعتبر الكيمياء والفيزياء على
قمة الجدول لاستنادهما إلى
الأدلة المادية ويعقبهما علم
الأحياء فالعلوم الاجتماعية
وأسفل الجدول أي فروع المعرفة
غير العلمية فقد صنفها
زاكرمان ذاكرا علم تبادل
الخواطر Telepathy أو الحاسة
السادسة وأضاف إليها " تطور
الإنسان " في حافة الجدول
السفلية وأضاف معلقا :
عندما نخرج من عالم الأدلة
المادية ونلج إلى علوم تمت
بصلة بعلم الأحياء مثل علم
تبادل الخواطر وتاريخ
المتحجرات الخاصة بالإنسان
نجد أن كل الاحتمالات ممكنة
بالنسبة لمن يفكر ويؤمن بفكرة
تطور الإنسان ، وحق يمكن
لهؤلاء أن يقبلوا بعض
الاحتمالات المتناقضة في آن
واحد (157).
إذن قصة تطور الإنسان ماهي
إلا نتاج إيمان أعمى بنظريات
موضوعة استنادا إلى متحجرات
اعتبروها دليلا لهم وهي في
الواقع دليلا عليهم وعلى
بطلان ادعاءاتهم السمجة .
الفكـر المــادّي
بعد هذا الاستعراض الفكري
يتبين لنا أن نظرية التطور في
حالة تناقض تام مع الأدلة
العلمية الموجودة ، لأن إدعاء
نشوء الحياة بالتطور مناف
لقواعد العلم ولا يمكن إيجاد
أي أساس علمي يستند عليه
ويمكن من خلاله البدء
بالمناقشة والتحليل والنقد
الموضوعي وأثبتت المتحجرات
بعدم وجود الكائنات الحية
البينية ، ومادام الأمر كذلك
فينبغي طرح هذه النظرية جانبا
باعتبارها متناقضة مع العلم
وقواعده وأحكامه ، كما حصل
للنظرية القائلة بأن الأرض
مركز الكون والتي طرحت جانبا
هي الأخرى .
ولكن هناك إصرار عجيب على
التأكيد بصحة هذه النظرية في
دنيا العلم ، والبعض من
الغلاة يذهب بعيدا في غلواءه
مؤكدا أن أي هجوم على هذه
النظرية هو هجوم على العلم
والعلماء ، ولكن لماذا ؟
وسبب هذا الغلو ناشئ من كون
النظرية بالنسبة لبعض الجهات
اعتقادا تلقينيا لا يمكن أن
يفرط فيه وهذه الجهات تؤمن
بالمادية إيمانا أعمى وتعتبر
الدارويننية مصدر الهام لها
في إيجاد تفسيرات للظواهر
الطبيعية .
وأحيانا يعترف دعاة التطور
بهذه الحقيقة ، مثلا Richard
liwentin ريتشارد ليونتن
الباحث المشهور في علم
الجينات والذي يعمل في جامعة
هارفارد ويعتبر من المدافعين
عن نظرية التطور يعترف بكونه
مؤمنا بالمادية ومن ثم يتحدث
عن نفسه أنه رجل علم قائلا :
" لدينا إيمان بالمادية
ونقبلها كبديهية ، والأمر
الذي يجبرنا على إيجاد
تفسيرات مادية للظواهر
الدنيوية ليس العلم ووسائله ،
بالعكس فإننا نعمل انطلاقا من
إيماننا بالمادية ولهذا السبب
نقوم بإجراء التجارب واستخدام
كافة الوسائل لإيجاد تفسيرات
مادية للظواهر الدنيوية ،
وبما أن المادية مقبولة من
قبلنا ونعترف بصحتها إطلاقا
فلا نأذن أبدا للتفسيرات
الإلهية أن تدخل حلبة الصراع
العلمي ".(158)
وهذا الكلام نتاج لمدى
الترابط الوثيق بين المادية
والدارويننية باستخدام
التلقين المؤدي إلى أعمى
الفكر والعقل .
وهذا التلقين يفترض أنه لا
يوجد شيء سوى المادة ، وأن
الحياة نشأت من المادة من شيء
غير حي ، أي أنها تقبل بنشوء
الملايين الحية المختلفة
كالطيور والأسماك والزرافات
والنمور والحشرات والأشجار
والأزهار والحيتان والإنسان
من التفاعلات والتغييرات
الحاصلة داخل المادة أو بمعنى
آخر من نزول المطر والصواعق ،
والحقيقة أن هذه الفرضية
منافسة لقواعد العلم والعقل ،
ولكن يستمر الدارويننيون في
الدفاع عن نظريتهم بشتى
الوسائل لمنع دخول التفسيرات
الإلهية حلبة الصراع العلمي .
والناظر إلى مسألة أصل
الأنواع نظرية غير مادية لابد
أن يجد الحقيقة التالية : كل
الكائنات الحية وجدت نتيجة
خلقها من قبل خالق ذي قدرة
وقوة لا حدّ لهما ، وهذا
الخالق هو الله سبحانه وتعالى
الذي فطر السماوات والأرض
وخلق الأحياء كلها من العدم
وهو الخلاق العليم .
|