الفصل الأول: الله واحد
سأتناول الموضوع بكل مهابة وخشوع ووقار. وإني أصلي إليه تعالى طالباً الحكمة والقوة والعون كي أعالج هذا الموضوع بتجرد ومحبة وإيمان بحيث تتّضح الحقيقة لمن يرغب في معرفتها، وتزول الغشاوة عن العيون، وتتحول الظلمة إلى نور. فالذي قال أن يشرق نور من ظلمة في بدء الخليقة قادر أن يشرق بنوره في قلوب الكثيرين. وإني آمل أن لا يتسرع أحد في الحكم قبل الانتهاء من القراءة، وإلا فانه سيقع في فخ الاستنتاجات المغلوطة النابعة من عدم التجرد والموضوعية. السؤال المطروح أمامنا هو: هل الله واحد أم ثلاثة؟ شغل هذا السؤال أكبر الأدمغة في عالم اللاهوت والفلسفة والفكر. ولعلك يا قارئي العزيز واحد ممن أدلوا دلوهم بين الدلاء، ولكن النتيجة واحدة. فالعقل البشري أعجز من أن يسبر الأغوار أو يستكشف الأسرار المتعلقة بالذات الإلهية دون إعلان أو كشف مسبق منه تعالى. يقول المزمور 19: "السموات تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه". فلو لم يعلن الله بعض جوانب طبيعته في الطبيعة المحيطة بنا لما توصّل العقل إلى ما توصّل إليه. فإن أمور الله غير المنظورة – أي قدرته السرمدية ولاهوته، تُرى منذ خلق العالم مدرَكَةً بالمصنوعات، كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى رومية. ولو لم يعلن عن ذاته في التاريخ والضمير والكتاب المقدس لما قدر العقل أن يفعل الكثير. فالفضل في الموضوع كله هو لله. فالله يبدأ بالإعلان لكي يحرك فينا العقل والإيمان. والإيمان أسمى من العقل لأنه يرى ما لا يُرى في حين أن العقل يتناول المنظورات والمحسوسات. الإيمان ليس ضد العقل بل ضد العيان. الإيمان والعقل يسيران في اتجاه واحد ولكن الأول أعظم وأعلى من الثاني. ولهذا يقول الكتاب المقدس "بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله". فمن يتوسل العقل وحده دون الإعلان أو من يقبل بعض إعلانات الله دون بعضها الآخر، فإنه ينتهي بواحد من ثلاثة: إما الإنكار والاستنكار أو التساؤل والاستفسار. وجدير بالانتباه أن المعلنات الإلهية – مهما تنوعت وتعددت – ليس فيها أي تناقض على الإطلاق بل هي منسجمة بعضها مع بعض وتكمل بعضها بعضاً. فما أعلنه الله في الطبيعة ينسجم كلياً مع ما أعلنه في الضمير، وما أعلنه في الضمير لا يخالف ما أعلنه في التاريخ، وما أعلنه في التاريخ يوافق معلناته في الكتاب المقدس مع العلم أن نور الإعلانات الإلهية هذه كان يزداد تدريجياً إلى أن بلغ ذروته في المسيح ! وأول شيء من هذه المعلنات هو أن الله واحد ولا آخر سواه. صحيح أن هناك كائنات روحية خارقة يسميها الكتاب المقدس "أرواحاً خادمة" كرؤساء الملائكة والكروبيم والسرافيم والملائكة – هذا إذا لم نذكر الكائنات الروحية الشريرة بزعامة إبليس، ولكن هذه كلها كائنات مخلوقة ومحدودة، أما الله فهو الخالق غير المحدود وقد أطلق عليه الفلاسفة أسماء عدة ومن أهمها اسم "الواحد". وهذه الوحدانية مؤكد عليها في التوارة والإنجيل والقرآن. فاليهودية والمسيحية والإسلام هي ديانات توحيدية لأنها تعتقد بإله واحد. ظن الكثيرون خطأ أن المسيحيين يؤمنون بثلاثة آلهة. وقد بلغ بعضهم حد القول بوقاحة أن الله متزوج وله ولد ثم تنادوا للدفاع والمحاماة عن الله، الأمر الذي إن دل على شيء فانه يدل على جهلٍ ما بعده جهل. أيها القراء الأحبّاء – ليكن معلوماً عندكم أن المسيحية هي ديانة توحيدية بالرغم من كل محاولات التشويش والتشويه من جانب المادية واللا أدرية والتعددية والحلولية والبدع الشيطانية والاستنتاجات الكيفية التي لا قبل لها بتغيير الحقيقة. فالمادية تنكر وجود الله وتقول أن الكون يفسر نفسه بنفسه. واللا أدرية تزعم بأن الله لا يمكن معرفته، وقد آثرت الوقوف على الحياد قائلة "لست أدري". والتعددية لا تؤمن بإله واحد بل بعشرات ومئات الآلهة. وهذا بارز في الأوساط الوثنية ماضياً وحاضراً. والحلولية تعتبر الله والكون شيئاً واحداً. فالله هو الكون والكون هو الله. وبقولها هذا تنفي الحلولية، لا وحدانية الله فقط بل أيضاً شخصيته وطبيعته ومقاييسه. أما الكتاب المقدس فيقول أن الله واحد، وهذا ما سنأتي على تفصيله في الفصل القادم إن شاء الرب. سؤال: هل الإيمان بوحدانية الله ضروري؟ نعم وبكل تأكيد. يقول يعقوب في رسالته المعروفة باسمه "أنت تؤمن أن الله واحد. حسنا تفعل". أي أنه يمتدح المؤمنين بوحدانية الله. سؤال آخر: هل الإيمان بوحدانية الله كاف للخلاص ودخول السماء؟ كلا. فإن يعقوب الذي امتدح الإيمان بوحدانية الخالق، يتابع قائلاً "والشياطين أيضاً يؤمنون ويقشعرون". فحتى الشيطان يعتقد بالله الواحد ويخاف منه ولكن إيمانه لا يخلّصه. لماذا؟ لأنه إيمان ناقص. فالإيمان بدون توبة لا يجدي نفعاً. والشيطان لا يقدر أن يتوب. قال المسيح لسامعيه في إنجيل لوقا: "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون". فالإيمان بالله الواحد أمر ضروري وجوهري ولكن إن لم يقترن بتوبة قلبية عمودية فانه لا يختلف عن إيمان الشياطين. هكذا كان إيمان الإغريق والرومان الذين قال عنهم بولس الرسول أنهم "لما عرفوا الله (وآمنوا بوجوده ووحدانيته من خلال الطبيعة) لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء". وما أكثر أمثال هؤلاء في أيامنا! ياليتنا نقول مع المرنّم: تبت إليك راجعاً بالقول والفعل فاقبلني ربي سامعاً نداي واغفر لي |