الفصل الثاني:
معنى الوحدانية
السؤال المطروح علينا هو:
هل الله واحد
أم ثلاثة؟ ومما قلناه في الفصل
السابق هو
أن
الجواب ليس متوقفاً على المنطق والعقل بل
بالحري على الإعلان والإيمان. فما يستطيعه
الإيمان لا يستطيعه العقل، لأن الأول أسمى
من الثاني. فالعقل يقول أن الله موجود،
أما الإيمان فيقدم له السجود. العقل يتعرض
للشك أما الإيمان فهو ضد الشك. العقل
محدود أما الإيمان فيعمل المستحيلات،
ولهذا قال المسيح: "إن كنت تؤمن فكل شيء
مستطاع للمؤمن". العقل كالشمعة أما
الإيمان فهو كالشمس في رابعة النهار.
وبالرغم من هذه الفوارق فإنهما يسيران في
اتجاه واحد ويتفقان على جواب واحد وهو:
أن
الله واحد ولا آخر سواه.
نعم الله واحد، ونحن نتمسك بهذه العقيدة
بقوة، بالرغم مما يشاع عنا، بحسن نية أو
بسوء نية. فالأنبياء والرسل والمسيح نفسه
أكدوا على هذه الحقيقة في كلمة الله.
وكلمة الله صخر لا يتزعزع. "السماء والأرض
تزولان ولكن كلام الله لا يزول".
إليكم الآن بعض البراهين من كتاب الله على
وجود إله واحد. يقول موسى الكليم الحليم
في الإصحاح 6 من سفر التثنية: "اسمع يا
إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد". وفي
الإصحاح 20 من سفر الخروج يقول الله في
الوصية الأولى من الوصايا العشر "أنا الرب
إلهك .... لا يكن لك آلهة أخرى أمامي".
وفي الإصحاح 45 من سفر إشعياء النبي تقع
عيوننا ست مرات على قول الله "أنا الرب
وليس آخر. لا إله سواي".
والحقيقة ذاتها نجدها في العهد الجديد.
ففي الإصحاح 12 من إنجيل مرقس نقرأ أن
أحد الكتبة المتمسكين بالناموس سأل يسوع:
"أية وصية هي أول الكل؟" فأجابه يسوع "أن
أول كل الوصايا هي: اسمع يا اسرائيل. الرب
إلهنا رب واحد". ثم تابع يقول: "وتحب الرب
إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل
فكرك ومن كل قدرتك".
وفي الموضوع نفسه يتكلم الرسول بولس في
الإصحاح 4 من رسالته إلى أفسس فيقول: "رب
واحد. إيمان واحد. معمودية واحدة. إله وآب
واحد". وفي رسالته الأولى إلى تيموثاوس
يصرّح الرسول نفسه قائلاً: "يوجد إله واحد
ووسيط واحد بين الله والناس..." وقد أشار
يعقوب على العقيدة نفسها لما قال في
الإصحاح 4 من رسالته المعروفة باسمه
"واحدٌ هو واضعُ الناموس".
بالإضافة إلى هذا عبَّر المؤمنون بالإله
الواحد، على مر التاريخ، عن عقيدتهم هذه
بقولهم "نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق
السموات والارض..".
السؤال الهام الآن هو: ما هي هذه
الوحدانية وكيف نفهمها على ضوء الوحي
المقدس؟
إن كنا نحاول تفسير وحدانية الله تفسيراً
حرفياً مطلقاً كما يفعل بعض العقلانيين،
فإن مفهومنا لشخصية الله والمسيح والكتاب
المقدس يصير مستحيلاً. فالكتاب المقدس
يمسي كتابا مملوءاً بالمتناقضات، ويصير
المسيح مجرد إنسان ذي نزعة دينية.
إذاً كيف نفسّر الوحدانية وكيف يجب أن
نفهمها؟
إن كنا نؤمن بصدق الله وكلمته فما علينا
إلا أن نعود "إلى الشريعة وإلى الشهادة".
فمن الأناجيل نفهم أن المسيحيين الأوائل
كانوا من اليهود المتمسكين بإيمانهم
بوحدانية الله، ولما تعرفوا إلى المسيح لم
يتخلوا عن عقيدتهم هذه ولكنهم فهموها
بطريقة جديدة من تصريحات المسيح عن نفسه
وعن الروح القدس. بكلمة أخرى فهموا أن
هناك تعدداً داخل الوحدانية. فهموا أن
الله ذو جوهر واحد غير متجزء وفي الوقت
نفسه ثالوث أو ثلاثة أقانيم.
لعلك تقول "هذا القول كفر وغير معقول".
ولكن رويدك. فمن قال لك أننا نتكلم على
مستوى العقل والمعقول؟ فالعقل البشري يلجأ
عادة إلى الحساب والأرقام فيقول: واحد +
واحد + واحد = ثلاثة، وحاشا أن يكون هناك
ثلاثة آلهة، وهكذا يسرع إلى الإنكار أو
إلى الاستنكار.
هذه هي الغلطة التي وقع فيها العبران
قديماً. فلما قرأوا قول موسى في التوراة
"اسمع يا اسرائيل. الرب إلهنا رب واحد"
رفضوا فكرة الثالوث كلياً ولم يعلموا أن
لفظة "واحد" في الكتاب المقدس إنما تشير
إلى الاتحاد أو الوحدة بين كينونات عدة.
مثال على هذا ما ورد في الإصحاح الأول من
سفر التكوين حيث يقول موسى: "وكان مساء
وكان صباح يوماً واحداً" مشيراً بذلك إلى
اليوم المكون من مساء وصباح.
مثل آخر نجده في الإصحاح الثاني من السفر
نفسه حيث نقع على الآية القائلة "لذلك
يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته
ويكونان جسداً واحداً" إشارة إلى الاتحاد
التام بين كيانين مستقلين. فالمرأة كانت
واحداً مع الرجل لأنها كانت ضلعاً من
أضلاعه، وهي لا تزال واحداً مع رجلها في
نظر الله، وقس على ذلك. هذه الحقائق أعلى
من العقل. ومع ذلك فإني أنصحك أن تقبلها
بثقة وفرح لأن الله لا يخدعنا. من جهة
أخرى إن كنت تحاول أن تُخضعَ الله
لمفاهيمك البشرية فإنك تحاول المستحيل
لأنك محدود والله غير محدود. ليعطك الرب
فهماً في كل شيء، وعسى أن تقبل الإعلان
بالإيمان.
التعدد
في الوحدانية
على ضوء كلمة الله، آمل أن نكون قد فهمنا
أن الله واحد وأن وحدانيته ليست حرفية
جامدة بل حية متفاعلة. فإن لفظة "واحد"
تشير إلى الوحدة أو الاتحاد بين كينونات
عدة، ولو أن المنطق البشري ينفر من الفكرة
– فكرة التعدد في الوحدانية. فقد أعلن
الله عن ذاته بهذه الطريقة وقدمها لنا لا
للتصويت عليها بل لقبولها بالإيمان. أن
نقبل أو ألا نقبل: تلك هي المسألة. وفي
كلتا الحالتين نحن مسؤولون عن موقفنا.
لم ترد لفظة ثالوث في الكتاب المقدس ولكنّ
سر الثالوث واضح جلي لكل ذي بصيرة روحية.
غير أن هذا لا يعني أن عقيدة التثليث سهلة
الفهم. فهي فوق العقل لأن الله فوق العقل.
يُقال أن أغسطينوس كان منهمكاً بهذا
الموضوع إذ كان يتمشى ذات يوم عند شاطئ
البحر. فحانت منه التفاتة إلى غلام صغير
يحفر حفرة في الرمل. ولما سأله أغسطينوس
عن غرضه من تلك الحفرة أجاب: " أريد أن
أضع البحر في هذه الحفرة". فقال أغسطينوس
في نفسه: "هذا هو عين ما أفعله الآن. إني
أحاول أن أضع الله اللا محدود في حفرة
عقلي المحدود".
نعم مَنْ مِنّا يقدر أن يفهم الله وطبيعته
بعقله المحدود؟ هناك أسرار أقل شأناً لا
قبل لنا بفهمها. فمن منا يقدر أن يدرك
معنى الحياة والوعي والنوم؟ إن كنّا لا
نفهم من هذه إلا اليسير فكيف نفهم
الاعتقاد القائل بإله واحد في ثلاثة
وثلاثة في واحد؟
لا غرابة إذا عثر مؤلّهو العقل بعقيدة
التثليث كما عثروا بعقيدة الصليب.
يقول الرسول بولس: "نحن نكرز بالمسيح يسوع
مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة".
ويصدق الشيء عينه على عقيدة الثالوث ولكن
المسيح قال: "طوبى لمن لا يعثر فيّ".
اقترح
أحدهم
مرةً دمجَ الديانتين المسيحية والإسلامية
في ديانة واحدة، ولكنه اشترط
أن
يتخلى المسيحيون عن الاعتقاد بالثالوث
والصليب وصحة الكتاب المقدس، وقد فاته أن
حسن النية لا يكفي ولا يفي، وأن الأمر ليس
عائدا للمسيحيين بل لله الذي كشف لنا سر
الثالوث وأعلن لنا عن ذاته إلهاً واحداً
مثلث الأقانيم. وما دام الله قد قال كلمته
فمن نحن حتى نبدّل أو نعدّل أو نحذف أو
نضيف؟
إن فكرة التعدد في الوحدانية ليست غريبة
عن كتاب الله أو عن خليقة الله. فالإنسان
نفسه واحد وثالوث في آن معاً. فهو مكوّن من
نفس وروح وجسد. ولهذا يقال عن الأموات
أنهّم "أحياء عند ربّهم" في حين أن الجثمان
يحمل إلى المقبرة. والماء أيضا هو واحد
وثالوث، لأنه مكوّن من جزيئين من
الهيدروجين وجزيء من الأوكسجين. والهواء
ثالوث: أوكسجين وهيدروجين ونيتروجين.
والذرّة الواحدة مؤلفة من بروتون ونيوترون
وإلكترون. والمادة مكوّنة من جامد وسائل
وغاز. والزمن مقسّم إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل.
والعائلة مؤلّفة من الأب والأم والأولاد.
نذكر هذه الإيضاحات كلها مع العلم أنها
نسبية ومحدودة. لأن الله لا يمكن تشبيهه
بشيء. في الوقت نفسه تؤكد لنا هذه
الإيضاحات شيئاً واحداً هاماً وهو:
إمكانية التعدّد في الوحدانية، وبالتالي
إمكانية الاعتقاد بإله واحد في ثلاثة
أقانيم.
زعم بعضهم أن التثليث جاء أصلاً من
الوثنية، ولكن هذا خطأ. صحيح أن الوثنية
كانت لديها فكرة شبيهة بفكرة التثليث إلا
أن مفهومها لها لم يكن المفهوم المسيحي
نفسه. وحتى لو افترضنا أن الوثنية كانت
تؤمن بالتثليث على الطريقة المسيحية فإن
ذلك لا يقلّل من شأن العقيدة بل بالحري
يؤكد لنا أن الله أعلن سره هذا للوثنيين
بطريقته الخاصة. نقول هذا ونحن واثقون من
أنّ أوجه الخلاف بين المفهومين أكثر من
أوجه الشبه.
وزعم آخرون أن التثليث لا يعني وجود ثلاثة
أقانيم مميزة في اللاهوت، ومن بينهم
سباليوس الذي ظهر في القرن الثالث
الميلادي وقال "أنّ الآب والابن والروح
القدس هم مجرد ثلاث تسميات لثلاثة مظاهر
مؤقتة لله، وذلك بقصد إتمام الفداء
للبشر". وفي القرن الرابع ظهر انحراف آخر
عن عقيدة الكتاب المقدس بزعامة آريوس قائد
من يزعمون أنّهم شهود يهوه، في جوانب للإله
الواحد. آمن آريوس بوجود إله واحد وأنكر
الثالوث. وانتهى به الأمر إلى تقسيم جوهر
الله، فصار الابن والروح القدس كائنين
مخلوقين للتوسّط بين الله والناس. وهكذا
حوّل آريوس المسيح إلى إله صغير مخلوق
مجرِّداً إياه من بنوّته الأزلية، ولو أنه
قال أن المسيح خلق العالمين.
أما تلاميذ آريوس فقالوا أن المسيح خلق
الروح القدس، وبذلك صار الله في المرتبة
الأولى، والمسيح في الثانية، والروح القدس
في الثالثة. وهذه الانحرافات أمر لابد منه
لأنه عندما يرفض المرء إعلانات الله فإنه
يصير عبداً لأفكاره واستنتاجاته الباطلة.
ولكن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً. فالله
هو هو وليقل الناس ما شاؤوا. وكم يذكّرني
هذا بما ورد في المزمور الثاني حيث يقول
داود: "لماذا ارتجّت الأمم وتفكّر الشعوب في
الباطل؟" وبعد ذلك يقول: "الساكن في
السموات يضحك. الرب يستهزئ بهم". فالله
يستخفّ بمحاولات الناس لأنها سقيمة وعقيمة
وبلا قيمة.
هل أنت ممّن يرضخون إلى ما يمليه
المنطق البشري المتأثر بالخطيئة، أم أنك
تصدّق الله وتقبل بالإيمان ما كشفه لنا في
كتابه المعصوم؟ ليت الرب يفتح قلبك
وبصيرتك لتقبل الحق.
براهين على التعدد في
الوحدانية
قلتُ لغاية الآن أن الكتاب المقدس في
عهديه يؤكد أن الله واحد في ثلاثة وثلاثة
في واحد. وهذا طبعاً لا يروق للمنطق
والعقل لأنه فوق العقل وغير ناتج عن
الاجتهاد العقلي. فالله كشف هذا السر
للبشر بواسطة إعلاناته الإلهية وعلى رأسها
الكلمة المكتوبة والكلمة المتجسد. ونحن
البشر ليس لنا يد في الموضوع. كل ما في
الأمر هو أننا أمام خيارين: إما قبول
الإعلان بالإيمان أو عدم قبوله تحت طائلة
المسؤولية. فالعقل وحده أعجز من أن يتجاوب
مع الإعلانات الإلهية بمنأى عن الثقة في
كلمة الله المقدسة. أما الإيمان فيفتح
القلب وينير الذهن ويجلو البصيرة.
ذكرتُ أيضا أن الوحدانية والثالوث هما حجر
عثرة للبعض وجهالة للبعض الآخر. والسبب في
ذلك معبّر عنه في قول الرسول بولس: "إن
الإنسان الطبيعي (أي بطبيعته) لا يقبل ما
لروح الله لأنه عنده جهالة". وهكذا يقع
المرء فريسة للأفكار الباطلة والمحاولات
السقيمة والعقيمة.
فالله واحد، وجوهره واحد، ولكنه ثالوث.
والبراهين على ذلك كثيرة:
أولاً: أسماء الله. ففي اللغة العبرية،
لغة العهد القديم، نقع على لفظتين لاسم
الجلالة، واحد بالمفرد وهي "إيل" (أي
الله) والأخرى في الجمع وهي "إيلوهيم" (
أي آلهة). وقد استعملت "إيلوهيم" 2500 مرة
في حين أن (إيل) استعملت 250 مرة. مثال
على هذا، الوصية الأولى في الوصايا العشر
الوارد ذكرها في الإصحاح 20 من سفر الخروج
حيث يقول الله: "أنا الربّ إلهك
(إيلوهيم)". فقوله "أنا الرب" يشير بوضوح
إلى أنه "واحد" أما قوله "إلهك" (إيلوهيم
في صيغة الجمع) فيشير إلى التعدد في
الوحدانية.
ثانياً: أقوال الله. إذا عدنا إلى الإصحاح
الأول من سفر التكوين نجد الله يتكلم في
صيغة الجمع والمفرد في آن واحد. ففي الآية
26 قال الله "نعمل الإنسان على صورتنا"...
وفي الآية 27 نقرأ العبارة القائلة "خلق
الله الإنسان على صورته".
وعلى أثر سقوط الإنسان، في الإصحاح 3 من
السفر نفسه نقرأ قول الله في الآية 22
"هوذا الإنسان قد صار كواحد منا". وعندما
يقول الله: "منا" فإلى من يشير يا ترى؟
أليس إلى التعدد في الوحدانية؟
في الإصحاح 6 من سفر إشعياء النبي نقرأ أن
السيرافيم هتفت ثلاث مرات قائلة: "قدّوس،
قدّوس، قدّوس، ربّ الجنود" بعد ذلك يقول
إشعياء " سمعت صوت السيد قائلاً من أرسل؟
ومن يذهب من أجلنا؟" لاحظ أنه قال "من
أرسل" في المفرد ثم "من أجلنا" في الجمع.
ونجد هذه الحقيقة واضحة جداً في قصة برج
بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر
التكوين حيث يقول الله: "هلمّ ننـزل ونبلبل
لسانهم" وليس "هلمّ انزل…. الخ.." من جهة
أخرى، لفظة "هلمّ" تشير إلى أن هناك
متكلِّماً ومخاطَباً. فمن هو المخاطَب يا
ترى؟
ثالثا: محبة الله. يقول الرسول يوحنا:
"الله محبة". حتى الإغريق فهموا أن الله
محب، ولذلك استعملوا أربع لفظات للمحبة.
الأولى تشير إلى المحبة الشهوانية،
والثانية إلى المحبة العائلية، والثالثة
إلى المودّة البشرية، والرابعة إلى المحبة
الإلهية وهي "أغابي" فالله ليس عطوفاً
رحيماً فقط بل أيضا محب. والمحبة لها
محبوب. فإن كان لا وجود للتعدد داخل
الوحدانية فمن يكون المحبوب يا ترى؟ فإن
قلنا أن الله يحب ذاته فإننا نرتكب خطأً
فظيعاً لأن الله ليس أنانياً. وإن كان ليس
أنانياً فمن هو موضوع محبته؟ فإذا قلنا أن
الله يحب الإنسان أو العالم فمعنى ذلك أن
الله غير مكتفٍ بذاته، وإن كان غير مكتف
بذاته فهو إذاً غير كامل. وحاشا لله أن
يكون ناقصاً. وفي هذه الحالة لا يبقى
أمامنا إلا حلّ واحد وهو، كما قال
المعمدان وبولس والمسيح، "أن الآب يحب
الابن" وهذه إشارة إلى التعدد في
الوحدانية.
رابعا: وعود الله. وأكتفي هنا بوعدين.
الأول هو وعد الحياة الأبدية، والثاني هو
وعد الروح القدس. في الإصحاح الأول من
رسالة بولس إلى تيطس يتحدث الرسول في
الآية 2 عن "الحياة الأبدية التي وعد بها
الله في الأزلية". فإن كنا نصدق كلمة الله
فمن حقنا أن نسأل: إن كان الله هو الواعد
فمن هو الموعود؟ وجواب هذا السؤال نجده في
الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا. يقول
المسيح للآب السماوي: "مجَّدْ ابنَك
ليمجّدك ابنك أيضاً إذ أعطيتَه سلطاناً
على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من
أعطيته". فالواعد هو الآب، والموعود هو
الابن، والوعد تمّ في الأزل، حيث لم يكن
ملاك أو إنسان أو أكوان.
الوعد الثاني هو وعد الروح القدس الذي
دعاه المسيح "موعد أبي" ودعاه بولس "روح
الموعد القدوس". وفي هذين القولين إشارة
إلى ما قرره الله في الأزل عندما فكر
بخلاص البشر. فقد وعد الآب ابنه بإرسال
الروح القدس بعد الصليب والقيامة والصعود،
وهكذا صار. فلما جاء يوم الخمسين كما هو
مدوّن في الإصحاح الثاني من سفر أعمال
الرسل، حلّ الروح القدس على التلاميذ كما
لو أنه إعصار، وظهرت لهم ألسنة منقسمة
كأنها من نار وامتلأ الجميع من الروح
القدس.
لعلك تقول "أنا لا أقدر أن أفهم سرّ
الثالوث". وأنا أجيبك: أنا مثلك. ولكني
أقبله بالإيمان لأن الله صادق ومنـزّه عن
الكذب. فالمسألة بسيطة جداً. هل أنت تصدق
الله أكثر من الناس أم بالعكس؟ إن كنتَ
تصدق الله فمن اللازم أن تصدق كلامه
ومعلناته في كتابه الكريم. وإن كنت تصدق
البشر فمعنى ذلك أنك تريد أن تضع الحقائق
الروحية في صف الحقائق العلمية والتحاليل
الفلسفية، وهذا خطأ فادح وفاضح. يا ليتك
تقتدي بالرسول بطرس الذي قال: "ينبغي أن
يطاع الله أكثر من الناس".
من أين جاء الثالوث؟
هيا بنا الآن إلى الأدلة الكتابية على
عقيدة التثليث القائلة بإله واحد مثلّث
الأقانيم: الآب والابن والروح القدس.
وسأستهلّها بما ورد في فاتحة الكتاب
المقدس. ففي الإصحاح الأول من سفر التكوين
نقرأ في الآية الأولى العبارة القائلة:
"في البدء خلق الله السموات والأرض".
وتقول الآية 2: "وروح الله يرفّ على وجه
المياه". وبعد ذلك نقرأ في الآية 3: "وقال
الله ليكن نور فكان نور". الآية الأولى
تتحدث عن "الله" والثانية عن "روح الله"
والثالثة عن "قول الله" أي كلمة الله. وهي
تشير إلى العقيدة المسيحية القائلة بإله
واحد في ثلاثة أقانيم.
أنتقلُ الآن إلى المزامير. ففي المزمور 33
تقع عيوننا على الآية 6 القائلة: "بكلمة
الرب صنعت السموات. وبنسمة فيه كل
جنودها". وبهذا كان داود يشير، كما أشار
موسى من قبل، إلى اشتراك الرب وكلمته
ونسمة فمه في عملية الخلق. والشيء نفسه
نجده واضحاً جلياً في نبوة إشعياء. ففي
الإصحاح 48 يقول الله "أنا الأوّل وأنا
الآخِرُ (وهذا لقب من ألقاب المسيح في
العهد الجديد) ويدي أسّست الأرض ويميني
نشرت السموات". وفي الآية 16 يقول "منذ
وجوده أنا هناك. والآن أرسلني السيد الرب
وروحه". من هنا نفهم أن الأقنوم الثاني هو
المتكلم ولذلك يقول "أرسلني السيد الرب
وروحه". إن كان هذا ليس ثالوثاً، فكيف
يكون الثالوث؟
نتحول إلى العهد الجديد. ففي الإصحاح
الثالث من إنجيل متى نقرأ تفاصيل معمودية
المسيح على يد يوحنا المعمدان. يقول
البشير متّى أنه "لما اعتمد يسوع صعد للوقت
من الماء. وإذا السموات قد انفتحت فرأى
روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه،
وصوتٌ من السماء قائلاً: هذا هو ابني
الحبيب الذي به سُررت". تصوّر المشهد في
فكرك: الابن يعتمد في الماء والروح ينـزل
كالورقاء والآب يشهد من السماء.
وما دمنا في جوّ المعمودية فلْنلْقِ نظرة
على صيغة المعمودية الواردة في الإصحاح 28
من إنجيل متى. يقول الرب يسوع: "فاذهبوا
وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب
والابن والروح القدس". لاحظوا أنه لم يقل
"عمّدوهم بأسماء الآب والابن والروح
القدس"، بل "عمدوهم باسم الآب والابن
والروح القدس". ولفظة "اسم" هي في المفرد،
مما يدلّ على أن الثالوث هو إله واحد.
يقول المسيح في الإصحاح 14 من إنجيل يوحنا
"وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعَزِّياً
آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي
لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه
ولا يعرفه". فالابن يطلب من الآب أن يرسل
الروح القدس. وهل هناك كلام أوضح من هذا
على صحة عقيدة التثليث؟
يخبرنا البشير لوقا في الإصحاح 1 من
إنجيله، أنه لما بشّر جبرائيلُ العذراءَ
خاطبها قائلاً: "ها أنت ستحبلين وتلدين
ابناً وتسمّينه يسوع"، قالت له: "كيف يكون
هذا وأنا لست أعرف رَجُلاً؟" فأجاب
جبرائيل (وأرجو الانتباه): "الروح القدس
يحلّ عليك وقوة العلي تظلّلك. فلذلك أيضاً
القدوس المولود منك يُدعى ابنَ الله".
وبقوله هذا أتى جبرائيل على ذكر ثلاثة لهم
علاقة بولادة المخلص: أولاً الروح القدس.
ثانياً الله العلي وثالثاً القدوس المولود
المدعو ابن الله.
الدليل الأخير في هذا الفصل نجده في ما
نسميه "البَرَكة الرسولية". والبركة
الرسولية المثلثة تذكّرنا بالبركة
"الهرونية" المثلثة في العهد القديم. ففي
الإصحاح 6 من سفر العدد كلَّمَ الرب موسى،
وموسى كلَّم أخاه هرون حتى يبارك الشعب
بقوله "يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب
بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك
ويمنحك سلاماً". لماذا تكررت البركة هذه
ثلاث مرات؟ لنفس السبب الذي من أجله قال
بولس في البركة الرسولية: "نعمة ربنا يسوع
المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس
تكون معكم". بكلمة أخرى السبب هو أن
الكتاب المقدس، من أوله إلى آخره، يعلِّم
بالتثليث. فالآب والابن والروح القدس هم
ثلاثة في جوهر واحد، وإله واحد لا ثلاثة
آلهة.
إن كنتَ لا تزال في حيرة من أمرك فاطلب من
الله أن يمنحك بصيرة لتعرف الحق. عندئذ
فقط تفهم قول الرسول يوحنا عن اختبار "أن
ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف
الحق". بدون هذه البصيرة الروحية عبثاً
تحاول أن تعرف الحق والحقيقة. |